ودخل العام 1429
عام هجري جديد أطل على العالم قبل أيام قليلة، مذكرا أهل هذا العصر بحدث تاريخي عظيم تغير وجه الدنيا بسببه،
حدث هجرة خاتم النبيين، محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، من مكة المكرمة، مسقط رأسه، إلى يثرب التي سمين من بعد المدينة المنورة.
شرحت في كتابي عن السيرة النبوية تفاصيل هذا الحدث العظيم الذي جاء بعد فترة قصيرة من بيعة العقبة الثانية، عندما أكد زعماء يثرب استعدادهم لاستقبال النبي صلى الله عليه وسلم وحمايته مما يحمون أنفسهم. أصدر النبي لأصحابه بالهجرة الى يثرب، مبينا لهم أن الله تعالى جعل لهم إخوانا ودارا يأمنون بها.
هذه هجرة جديدة أقرب وأقل مشقة من الهجرة الأولى الى الحبشة. وأغلب المسلمين كانوا بحاجة اليها، لأنهم كانوا متمسكين بدينهم صابرين على ما يلحقهم من ظلم وأذى في مكة، حالهم حال القابض بيده على الجمر. وها هي يثرب تتيح لهم خيارا جديدا لم يلقوا مثله منذ نزول الوحي على النبي أول مرة قبل ثلاثة عشر عاما: أن يكون لهم مركز حر مستقل ترفع فيه رايات الإسلام، ويستطيعون فيه ممارسة عبادتهم دون التعرض للعسف والقهر.
بدأ مسلمو مكة في الهجرة بالعشرات. يتركون مواطن طفولتهم، ومقر عشيرتهم، وبيوتهم، ويفضلون عليها نسائم الحرية في يثرب، على بعد ما يقرب من خمسمائة كيلومتر، وعلى الطريق الرئيسي للتجارة بين مكة والشام.
حاولت السلطات القرشية منع من تقدر على منعهم من الهجرة، ومنهم أبو سلمة بن عبد الأسد. كان من المسلمين الذين هاجروا الى الحبشة، وبعد عودته منها وسماعه بانتشار الإسلام في المدينة، أراد أن يكون سابقا في الإنتقال إليها. كانت معه في طريق هجرته زوجته أم سلمة، وابنه سلمة. لكن بني المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وهم من رموز صف الشرك والتسلط، اعترضوا طريقه وافتكوا منه زوجته وابنه بالقوة، وفرضوا عليه المغادرة من دونهما.
بقيت أم سلمة حبسية عند بني المغيرة مدة عام كامل تقريبا، تبكي زوجها ورفيق عمرها الذي فصلت عنه بقوة السلاح. وبقيت كذلك حتى توسط لها أحد أقاربها لما رأى من سوء حالها، فسمح لها سجانوها بالمغادرة.
وفقد العديد من المهاجرين أموالهم أيضا، ومنهم صهيب بن سنان. قال له عدد من أعداء الإسلام المتعصبين من أهل قريش: “أتيتنا صعلوكا حقيرا، فكثر مالك عندنا، وبلغت الذي بلغت، ثم تريد أن تخرج بمالك ونفسك؟ والله لا يكون ذلك. فقال لهم صهيب: أرأيتم إن جعلت لكم مالي، أتخلون سبيلي؟ قالوا نعم. قال فإني جعلت لكم مالي”. وبلغ الخبر الى النبي صلى الله عليه وسلم فما كان له من تعليق إلا قوله: ربح صهيب. ربح صهيب.
وهذا تعليق لا يروق كثيرا للذين يرون أن المال أهم شيء في الحياة، ويقبلون التضحية بكرامتهم وحريتهم وعقيدتهم من أجله. لكن المسلمين والناس الأسوياء الذين يعرفون أهمية الإيمان في الحياة وأهمية التزام الإنسان بمبادئ شريفة يدافع عنها في كل الظروف، كل هؤلاء يفهمون مغزى التعليق الموجز والرائع من النبي صلى الله عليه وسلم. نعم، خسر صهيب ماله ولكنه ربح إيمانه وكرامته، وربح مصيره الحر الذي سيجمعه في يثرب بمواطني أول دولة إسلامية على وجه الأرض. وأواصل عرض القصة غدا إن شاء الله تعالى.