إعــــلانات

هكذا انقلب بومدين على بن بلة وتمرّد العقيد شعباني

هكذا انقلب بومدين على بن بلة وتمرّد العقيد شعباني

 

قدمنا له الحكم على طبق من ذهب فسعى إلى التخلص منا

 كانت حركة التصحيح الثوري، أو ما يسميه البعض انقلاب 19 جوان 1965 مبرمجة، بل ومعلنة قبل وقوعها بوقت. فقد كان شائعا بين الناس أن شهر العسل آيل إلى نهايته المحتومة بين الرئيس أحمد بن بلة ووزير دفاعه هواري بومدين، أما بالإطاحة بالأول، وإما بإقالة الثاني وجماعته. ويقال أن بن بلة قدم، ذات يوم، وزير دفاعه لصحافي أجنبي بهذه العبارة: ”هذا هو الرجل الذي يتآمر ضدي”. وبدوره، اعترف لي هواري بومدين في أكتوبر 1963 أنه ضاق ذرعا بأحمد بن بلة، وبطريقة إدارته للشأن العام، وحدثني عن تردّي العلاقة بينهما. ”الأمور ما تعجبش، هكذا قال لي بومدين بنبرة الشخص الواثق من شكوكه. وكان فتور العلاقة بينهما واضحا حتى في الصور التي كانت تذيعها وسائل الإعلام آنذاك. إذ كان كل واحد منهما يبدو متبرما من الآخر ويتفادى لقاءه، وكأن بينهما عداوة مستحكمة. لقد جمعتهما ظروف الحرب والسياسة، وباعدت بينهما التطلعات والأماني. ولعل من الخطإ الاعتقاد أن الخلاف بين الرجلين يعود إلى اختلاف في الطبائع أو تنافر في الأمزجة. فأسبابه تكمن أساسا إلى تضارب في الرؤى والتصورات حول القضايا التي طرحت بعد الاستقلال وطرق حلها. لقد كانت الأزمة في البلد عامة، ومست مظاهرها كل مناحي الحياة. وكانت الجزائر آنذاك تشبه بركانا خامدا ينذر بالانفجار في أية لحظة، فبالإضافة إلى الخراب الذي خلفه الاستعمار وإرثه السلبي وتفاقم المشاكل الاجتماعيةالبطالة، الكساد الاقتصادي، جمود المؤسسات، إلخ”. تميزت تلك الفترة بصراع شرس حول الخيارات السياسية الكبرى وحول اختيار الرجال، ترتب عن ذلك، كنتيجة طبيعية، سباق محموم إلى الزعامة الاستفراد بالحكم. وعادت إلى الواجهة من جديد المشاكل المؤجلة التي لم يحصل عليها إجماع منذ لقاء طرابلس.ومما زاد الطين بلة تنحي أو تنحية شخصيات سياسية مشهود لها بالإخلاص والوفاء للوطن من مراكز اتخاذ القرار. ففي أبريل 1963 استقال الأمين العام للحزب محمد خيضر بسبب خلافه مع بن بلة حول طريقة تنظيم الحزب، وبعد فترة قصيرة اتهم بوضياف بالتآمر على البلاد وتم اعتقاله، واستقال فرحات عباس احتجاجا على طريقة إعداد الدستور. وتحولت بلاد القبائل إلى بؤرة للتوتر كادت تؤدي إلى حرب أهلية. وكان بن بلة في كل ما حدث ويحدث يتنصل من مسؤوليته محملا بومدين، ومعه نحن العسكريين، مآسي حرب الحدود، وتوريط الجيش في بلاد القبائل. في مثل هذا المناخ المتوتر كان الجميع يتوقع أن يتم الحسم في مؤتمر جبهة التحرير الوطني الذي عقد في 16 أفريل 1964 وكان هذا المؤتمر الذي اختلف على تسميته -هل هو الأول أم الثالث؟فصلا  آخر من فصول الصراع الخفي بين أحمد بن بلة وهواري بومدين. وكانت كل المؤشرات تدل على أن الرئيس يسعى واضحا من خلال الحملة الدعائية التي سبقت بشهور انعقاد المؤتمر وتشكيلة اللجنة التحضيرية التي سيطرت عليها العناصر اليسارية والعلمانية وحاشية الرئيس أن هذا الأخير يبحث بأي ثمن عن غطاء إيديولوجي لتبرير السياسة التي كان ينتهجها آنذاك. وكان هذا الغطاء هو برنامج إيديولوجي وسياسي جديد أراده بن بلة مكملا لبرنامج طرابلس الذي لم ترفع جلسته، وكان العديد من الشخصيات لا يعترفون بقراراته. وكنا في الجيش، أو من كان مقربا من بومدين، نعتبر هذه السياسة مغامرة غير محمودة العواقب سمتها إرادوية وطابعها خطاب ديماغوجي شعبوي. أما في الواقع العملي، فقد تحولت البلاد إلى حقل تجارب لا يصح نعتها إلا بالخيار الغريب عن الواقع الجزائري. فسواء في مفردات خطبه أو في سياسته كممارسة عملية كان بن بلة يوظفخليطاغريبا من اشتراكيات استلهمها من تجارب يوغسلافية وصينية وكوبية وسوفييتية، مضفيا عليها مسحة إسلامية لتصبح قابلة للتصديق. لقد كان من المحزن أن نرى وتيرة التأميمات، مثلا، تتسارع بشكل مثير للدهشة لتشمل حتى الحرفيين والتجار الصغار والحمامات وقاعات السينما والمقاهي. ولهذا السبب، وقف أغلب الضباط صفا واحدا داعما لموقف هواري بومدين الذي رفض في أول الأمر المشاركة في أشغال المؤتمر معتبرا أن مهمة الجيش هي الدفاع عن الخيارات الشعبية وحماية وحدة التراب الوطني وسلامته، وليس العضوية في مكتب سياسي أو لجنة مركزية، كما كان معمولا به في الدول الإشتراكية، لكن بومدين غيّر موقفه في آخر لحظة لأسباب تكتيكية، هكذا شاركنا في الأخير في أشغال المؤتمر خوفا من أن يتمكّن بن بلة من استغلال عواطف مناضلي الحزب وحماسهم لعزل قادة الجيش وحرمانهم من إبداء رأيهم في قرارت من شأنها أن ترهن مستقبل البلاد، واتّفقنا مع بومدين على رفض عضوية قادة الجيش في اللجنة المركزية، وبرّر بومدين هذا الموقف بخشيته أن تتّخد قرارات في غير صالح الشعب بتزكية من الجيش. منذ اليوم الأول اندهشنا من عنف الهجمات على الجيش من قبل بعض المؤتمرين، وخاصة مسؤولي الفيدراليات الذين كانوا يطالبون بتطهير الإدارة والجيش، وبدا الأمر وكأنّه خطة معدّة سلفا يقف وراءها قائد جوق يتحكّم في خيوطها من وراء الستار، كان هؤلاء المسؤولون يشتكون من تدخّل قادة النواحي العسكرية في شؤونهم، مطالبين بأوليّة النضال الحزبي على الأوامر العسكرية وإشراف المكتب السياسي للحزب على التوعية السياسية داخل وحدات الجيشلم يطلب بومدين الكلمة أثناء الأشغال، وظلّ صامتا يتابع باهتمام وتوتّر في آن واحد انتقادات القاعة، ولما بدأ الحاضرون يهتفون مطالبين بتطهير الجيش من الضباط الفارّين من الجيش الفرنسي، وكان شعباني من أشدّ المتحمّسين لهذا المطلب، فهم بومدين أنه مقصود بذلك. وكانت تلك القطرة التي أفاضت الكأس. طلب بومدين الكلمة وصعد إلى المنصّة وبنبرة الإنسان الواثق في نفسه، ردّ في خطاب عنيف دام إلى ساعة متأخّرة من الليل على انتقادات القاعة بالقول: ”من الطاهر بن الطاهر الذي يريد أن يطهّر الجيش؟

ساد صمت ثقيل في القاعة، وأضاف بومدين أن طرد الضباط الفارّين من الجيش الفرنسي مطلب غير واقعي، لأن هؤلاء خدموا الثورة رغم التحاقهم المتأخّر بها، وأن الجيش استفاد أثناء حرب التحرير ويستفيد الآن من تجربتهم التقنية، قال: ”وهم جزائريون مثلكم، ثم طرح تساؤلا تعجيزيا: ”هل نلجأ إلى الأجانب لتدريب وتأطير جيشنا؟، وختم بالقول: ”إن المؤتمر سيّد وإذا طلب مني أن أطرد هؤلاء الضباط سأمتثل لأمره، وكانت الاستراتيجية التي تبنّاها بن بلة تتمثّل في السعي إلى فرض رقابة حزبية على الجيش، ولأنه كان يعرف أنه سيُنتخب أمينا عاما للحزب، فمعنى ذلك بسط رقابته الشخصية على الجيش، ولذلك كان ردّه: ”بومدين سيكون كلّ شيء مع الحزب، ولا شيء من دون الحزب”.في نهاية الأشغال تمّ إقرار مبدأ الحزب الواحد على أن يكون هذا الحزب طلائعيا. على أن المصادقة على وثيقة ميثاق الجزائر بسرعة أعطت الانطباع وكأن الخيارات الإيديولوجية لا أهمية لها، وأن الرهانات كانت منصبّة كلها على اقتسام المناصب ومراكز النفوذ، واعتقد بن بلة، واهما، بعد المؤتمر أن كفّة ميزان القوى مالت لصالحه، فقد نجح في فرض رجاله على مستوى الهياكل المركزية والقاعدية للحزب، وتولّى بنفسه الأمانه العامة وترأّس الحكومة، وبدأ يؤسّس بشكل مرتجل للحكم الفردي، متجاهلا تحذيرات حتى أقرب الناس إليه. و بالموازاة مع ذلك شرع في إبعاد القيادة العسكرية عن مراكز اتخاد القرار، وكان يسعى آلى  التخلص من الرجل القوي هواري بومدين كان هدفه غير المعلن هو بسط يده على دواليب الدولة وجهاز الحزب والمؤسسة العسكرية.

تمرّد شعباني

وقد كان بعض الصراعات مما فرضته الظروف علينا، كما كان بعضها الآخر مما فرضناه على أنفسنا. ومن ذلك م عرف بتمرّد شعباني الذي كان، في حقيقة الأمر، مكيدة خسيسة ذهب ضحيتها أحد ضباط الجزائر المخلصين. ولابد لي هنا أن أوضح ملابسات ذلك التمرد ظروفه لأني كنت طرفا أساسيا وفاعلا في مجرياته وفي مآله. فأنا من أجهض ذلك التمرد قبل أن يتخذ أبعادا خطيرة. كان شعباني قائدا للناحية العسكرية الرابعة. وكان الخلاف بينه وبين بومدين هو إسناد بومدين للمراكز الحساسة في وزارة الدفاع الوطني إلي الضباط الفارين من الجيش الفرنسي، الذين كان شعباني يعتبرهم قوة ثالثة وخطرا حقيقيا على الثورة. وأشيع آنذاك أن ين بلة يريد استخلافه على رأس الناحية بعمار ملاح. رفض شعباني مغادرة مقر الناحية بعد أن استدعاه بن بلة إلى العاصمة للالتحاق بالمكتب السياسي. ووصلت الأزمة لينهما إلى طريق مسدود، رغم الوساطات العديدة التي قام بها بعض الوجوه السياسية والعسكرية. وتطورت الأزمة بحيث أصبحت تهدد بتصدع المؤسسة العسكرية الفتية. كثيرون من الناس، ومنهم أصدقاء شعباني، يعتقدون أن بومدين كان يحمل حقدا دفينا لشعباني، ويعتبره منافسا له في قيادة الجيش، وأنه هو من دفعه إلى التمرد، وهو من حاصره في بسكرة، وهو من شكل المحكمة، وهو من أمر بإعدامه. والحقيقة غير ذلك. لقد سبق لهواري بومدين أن أوضح موقفه من هذه القضية في حوار مع الصحفي المصري الخولي بقوله:

  بن بلة هو الذي دفع الأخ شعباني إلى هذه الغاية المأساوية، إلى الموت. فخلال سنة كاملة بذل بن بلة كل ما في وسعه من أجل تأزيم العلاقات بين قيادة الأركان وشعباني، قائد الناحية الرابعة. ثم عين بعد ذلك العقداء شعباني والزبيري وأنا شخصيا في المكتب السياسي، وهم كلهم مسؤولون عن قيادة الجيشوبموجب هذا القرار كان بن بلة يريد وضع حد لوجود شعباني كقائد ناحية على الصحراء وتعيين شخص آخر بدله. لكن شعباني كشف خديعة بن بلة ورفض الالتحاق بالمكتب السياسي”.

هذه رواية بومدين. ومن واجبي، شخصيا، أن أدلي بشهادتي على الأقل في الأحداث التي كنت طرفا فيها في هذه المأساة المؤلمة.

الوقع أن أجمد بن بلة هو الذي ألّب العقيد شعباني ضد هواري بومدين. كان يناور دائما ويحيك الدسائس منذ أن أوصلناه إلى الحكمكان ذلك هو طبعه ولم يتغير قيد أنملة. كان يريد دائما أن يشعل نار الفتنة بيننا. كان شعباني عضوا في قيادة الأركان، نائبا للطاهر الزبيري إلى جانب بن سالم والعقيد عباس، لكنه كان بلا شك يطمح إلى أكثر من ذلك بالنظر إلى صغر سنه.

أعلن شعباني تمرده في ظروف غامضة وعصيبة على أكثر من صعيد. ففي ذلك الوقت كانت الجزائر لا تزال تضمد جراحها. وكنا مانزال نعاني صعوبات في تنظيم مؤسسات الدولة والمجتمع، ونتخبط في مشاكل عديدة ورثناها عن الاستعمار.  

  بعد أن أصبح التمرّد أمرا واقعا، اتّصل بي بومدين هاتفيا، وكان إلى جانبه الرئيس بن بلة، وأخبرني أن هذا الأخير يطلب مني احتلال مركز قيادة الناحية الرابعة، وكانت قادة الأركان قد اتخذت قرارها بالإجماع على ضرورة إجهاض هذا التمرّد في أسرع وقت، وأُعدّت خطّة لإطفاء نار هذه الفتنة الني كانت تهدد بتمزيق أوصال البلاد، أطلعتني قيادة الأركان على هذه الخطة، وأخبروني أنهم سيرسلون عمّار ملاح من أريس، أما أنا شخصيا فكلفت بالإشراف على العملية والتنسيق بين القوات المشاركة فيها، ورافقني في هذه المهمة نائبي في الناحية الخامسة محمد عطايلية، هذه التعليمات وصلتني عن ذويق برقية، ولم أكن أدري أن شعباني كان على علم بها، ذلك أن أحد المسؤولين في الإشارة، أصله من بسكرة، كان متواطئا معه وأطلعه على الخطة بالدّقةوالتفصيل. اتّخذ شعباني تدابير مضادة لخطّتنا، ولحسن الحظ، أنني لم أطبّق حرفيا الخطة كما وردت من قيادة الأركان، وتصرفت وفق حقائق الميدان، استقدمت عبر بريكة الفيلق السابع عشر، وهو من أفضل الفيالق تجهيزا وتدريبا، وأعطيت لقائده تعليمات بأن لا يدخل بسكرة حتى نصل نحن، وطلبت أيضا منه أن يبقى عند مشارف المدينة فوق التلال حتى نستطيع أن نراه، وهذا ما لم يكن ينوقعه شعباني، ولما وصلنا إلى خنقة سيدي ناجي شاهدنا مواقعهم، كانت معي بعض الدبابات، وأمرت الجنود أن لا يطلقوا النار حتى تأتيهم التعليمات، وفي أثناء ذلك تلقيت أمرا من بومدين لإقامة قيادة أركان العملية في باتنة، لأنه كان يعتقد أن الأمر سيطول.

أرسلت الفصيلتينفي جهتين مختلفتين، وحاصرنا المتمردين، وعندما شاهد جنود شعباني أن الجيش طوّقهم هربوا ودخلوا إلى معسكراتهم، وحتى شعباني لم يكن يتصوّر السرعة التي تمت بها العملية، كما لم يكن ليخطر بباله أن جنوده الذين كانوا أوفياء له تخلوا عنه، دون أن يطلقوا رصاصة واحدة، وحين أخبروه أنه محاصر، هو وجيشه، لم يصدق، هرب مع أركان قيادته، ونسيّ في مكتبه سترته التي وجدنا فيها بطاقة تعريفية، أما جنوده فقد دخلوا الثكنة وأوصدوا الأبواب خلفهم، وحين وصلنا إليهم سلموا أنفسهم دون أدنى مقاومة، أما شعباني فقد التجأ إلى صديقه سعيد عبيد، وطلب منه الحماية في بوسعادة يوم 8 جويلية 1964.

وبعد انتهاء العملية أخبرت بومدين هاتفيا من باتنة بذلك، لكنه لم يصدّق.

قلت له: ”إن التمرّد اتنهى ورن الأمور عادية”.

أحسست من نبرة صوته ومن أسئلته الملحّة حول كيفية سير العملية أنه لم يصدّقني.

فقلت له: ”الجماعة سلّمت نفسها من دون إطلاق رصاصة”.

واصل بومدين بنبرة شك وحيرة يسألني عن مصير شعباني، متسائلا كيف يمكن للعملية أن تنتهي بهذه السرعة والسهولة.

أكدّت له:”شعباني هرب، وجنوده سلّموا أنفسهم دون مقاومة، ونحن نتحكم في زمام الأمور”.

بعد انتهاء العملية قمت، بأمر من وزير الدفاع هواري بومدين، بنقل جنود الناحية الرابعة وتوزيعها على فيالق أخرى في نقاط متفرقة من التراب الوطني.   انتهى التمرّد من دون إراقة دماء، لكن مأساة شعبانى ستبدأ بعد أيام قليلة. وسيستعمل صلاحياته كرئيس للتأثير في قرار المحكمة وليلقى شعباني مصيره الحتمي. شكلت محكمة ثورية خاصة لمحاكمة شعباني، واتصل بومدين ليقول لي: ”إن الرئيس أحمد بن بلة عينني عضوا في هذه المحكمة، إلى جانب سعيد عبيد وعبد الرحمن بن سالم”. وأضاف بومدين: ”إن الرئيس يطلب منكم الحكم بالإعدام، وإذا لم تصدقني اتصل بالرئيس حين يأتي إلى العاصمة، وسيقول لك نفس الكلام”. صدقت بومدين، فلم يكن من عادته الكذب عليّ. وأريد هنا أن أصحح معلومات خاطئة نشرت في شكل شهادات في الصحافة الوطنية تقول إن أحمد بن الشريف وأحمد دراية وأحمد بن أحمد عبد الغني كانوا أعضاء المحكمة. وهذا غير صحيح. تشكلت المحكمة، بعضوية الضباط المذكورين أعلاه، وترأسها قاض مدني من الجزائر العاصمة، اسمه أحمد زرطال. ذهبنا إلى وهران حيث كان شعباني مسجونا مع جماعة أخرى من المساجين السياسيين في سجن سيدي الهواري، منهم محمد خبزي ومحمد جغابة ووحسين الساسي والطاهر لعجل وسعيد عبادو وأحمد طالب الإبراهيمي ومعارضون آخرون لبن بلة.لم تستغرق المحاكمة من الوقت طويلا، وبعد المداولة حكم على شعباني بالإعدام بتهمة محاولة التمرد على الحكم وزرع الفتنة في صفوف الجيش. وبعد النطق بالحكم التقت نظراتنا، وانتابني في تلك اللحظة شعور أن لا أحد منا مقتنع بهذا الحكم القاسي. فأنا، كعسكري، امتثلت لأمر الرئيس، ولم يكن في وسعي رفضه، ومن أجل إنقاذ حياة شعباني طلبت منه أن يلتمس العفو من الرئيس بن بلة، فقال لنا، وكان منهارا: ”أطلبوه أنتم باسمي”.كلفنا سعيد عبيد، بصفته قائدا للناحية العسكرية الأولى، أن يقوم بذلك ويتصل ببن بلة، ولكن بن بلة رفض رفضا قاطعا التماسنا، بل أصرّ على تنفيذ الحكم، كما صدر عن المحكمة، معتبرا أن الحكم نهائي وغير قابل للاستئناف. ولما أخبرنا سعيد عبيد بذلك قلت له: ”أطلب العفو باسمنا نحن الضباط، وقل للرئيس إن شعباني مجاهد ورفيق سلاح، أمرتنا بأن نحكم عليه بالإعدام فحكمنا بذلك، ونحن نعتقد أنه لا يستحق هذه العقوبة، وهو الآن يطلب منكم تحويل حكم الإعدام إلى عقوبة السجن”.ولما كلمه سعيد عبيد ثانية أجابه بن بلة بنرفزة وتشنج: ”قلت لكم أعدموه هذه الليلةوشتم سعيد عبيد، وشتم حتى أمه، وقال له: ”أمنعك من الاتصال بي مرة أخرى”. وأغلق في وجهه التليفون، بعد النطق بالحكم لاحظت تزايد عدد أفراد الدرك في القاعة وحول المحكمة، ففهمت أنهم كان يخشون أن نقوم بتهريبه قبل الإعدام.في الثالث من سبتمبر أعدم شعباني مع طلوع الفجر في غابة بالقرب من كاناستل، بحضور أعضاء المحكمة، وحضر أيضا أفراد من الدرك الوطني العملية. بعد الإعدام وضعوا جثته في نعش، ودفن في مكان مجهول. وقيل لي فيما بعد إن بن بلة كان يستعد في اليوم الموالي للسفر إلى القاهرة، وحين قرأ في الجرائد خبر إعدام بن شعباني صاح قائلا: ”خسارة. كيف يعدمون ضابطا شابا مثل شعباني”.وتمضي عشرون سنة وأعيد الاعتبار إلى شعباني وآمر بدفنه في مربع الشهداء بمقبرة العالية. واليوم، أشهد أن بومدني لا دخل له في المحاكمة، وأن الذين حاولوا ويحاولون إلى اليوم إلصاق التهمة به، فعلوا ذلك ويفعلون للإساءة إليه. وأشهد أن بن بلة هو من أمر بذلك، وهو الذي رفض تحويل الإعدام إلى عقوبة سجن، وهو من أصر على الإعدام في نفس اليوم. ولم تجد المساعي التي قمنا بها لإنقاذ حياة شعباني نفعا.في النصف الأول من عام 1965 أصبح الطلاق بين الرجلين معلنا، وقد سبقته أحداث أوصلت العلاقة إلى نقطة اللارجوع، فقد انتهز بن بلة سفر بومدين إلى موسكو ليعلن في مهرجان شعبي عن تعيين الطاهر الزبيري قائدا لهيئة الأركان العامة دون استشارة وزير دفاعه. وكان هذا التعيين استفزازا سافرا لبومدين الذي يكون قد فسر هذا التعيين على أنه إنذار لاستخلاف الزبيري له على رأس وزارة الدفاع. كما أقدم الرئيس أيضا على خطوة خطيرة وهي تكوين مليشيات تخضع مباشرة إليه، وكان ذلك بالنسبة إلينا، نحن الضباط، تحد ما بعده تحد. فلم يكن معقولا القبول بوجود قوة مسلحة موازية خارج رقابة الجيش، ونسكت عن تجاوزاتنا وتعديها على الحريات الفردية وممتلكات الأشخاص.وواصل الرئيس تفكيك جماعة وجدة بدفع أحمد مدغري إلى التنحي من وزارة الداخلية، وقايد أحمد من وزارة السياحة، وقلص صلاحيات الشريف بلقاسم في وزارة التوجيه الوطني. وكانت القطرة التي أفاضت الكأس هي إقدام بن بلة على تنحية عبد العزيز بوتفليقة من وزارة الخارجية، مستغلا غياب بومدين الذي كان في القاهرة لتمثيل الجزائر في اجتماع رؤساء الحكومات العربية لمساندة القضية الفلسطينية. وقد جرت هذه الأحداث في جو مشحون من التحضيرات لعقد الندوة الأفروأسيوية، أو باندونغ الثانية كما سميت، التي كان بن بلة يخطط لاستغلالها لتكريس سمعته الدولية ونفوذه كزعيم بارز من زعماء العالم الثالث.وكان تركيز بن بلة على إنجاح هذه الندوة والمهرجان العالمي للشبيبة من مظاهر تفضيله للمناورة على الساحة الدولية على حساب الداخل. وكان العديد من الضباط، لا ينظرون بعين الرضى إلى هذا النهج وإلى الصلات التي نسجها بن بلة مع زعماء العالم الثالث، مثل عبد الناصر ونهرو وتيتو وسيمو توري وشون لاي. فبدل تكريس الجهود لحل المشاكل التي كان المواطنون يتخبطون فيها يوميا، راح بن بلة يبني لنفسه مجدا وهميا في ساحة الكبار مستغلا في ذلك الحظوة التي منحتها له الثورة الجزائرية. لقد كان بومدين والضباط المقربون منه من أجل سياسة متوازنة بين أولويات الداخل ومتطلبات الخارج

تعييني في الناحية الثانية

كتب البعض أن نقلي إلى الناحية العسكرية الثانية يدخل ضمن الاستعداد لحركة جوان، وأن بومدين كان سيلجأ إلى الناحية الثانية لتنظيم المقاومة في حال فشل العملية. لكن الحقيقة غير ذلك فبودمين لم يكن راضيا على مستوى تنظيم الناحية لذلك كلفني بمهمة إعادة تنظيمها بالنظر إلى حساسيتها.في الأسبوع الأول من شهر جوان شرع هواري بومدين في استدعاء قادة النواحي العسكرية على انفراد، وتمت هذه العملية في سرية تامة. وبدأ قادة النواحي بالتنسيق مع الرائد عبد القادر شابو، الأمين العام لوزارة الدفاع الوطني، في اتخاذ احتياطات صارمة تحسبا لشيء هام سيحدث قريبا. جدير بالذكر أن قادة النواحي والوحدات التي شاركت في العملية لم يكونوا يعرفون حتى اللحظات الأخيرة طبيعة ما سيحدث، لكنهم يستعدون لشيء هام وشيك الوقوع.في البداية تم الإتفاق على اعتقال بن بلة يوم 17 جوان بعد خروجه من ملعب وهران بعد مباراة الجزائر البرازيل. كنت حاضرا في البداية المقابلة لكني لم أشاهدها إلى نهايتها لأني كنت مكلفا بضمان الأمن. في اللحظة الأخيرة تم العدول عن فكرة الاعتقال في الملعب خوفا مما يمكن أن تثيره من أحداث شغب في أوساط الجمهور واحتمال انتقالها إلى المدينة كلها، أو تؤوّل على أنها اختطاف.هل كان بن بلة على علم بما كان يخطط ضده. لا يمكنني أن أؤكد أو أنفي هذا الأمر. لكني شعرت حين حلّ بوهران أنه كان يتفادى الحديث معي، وعاملني في المطار بجفاء وبرودة مخلين بقواعد البروتوكول. وفي اليوم التالي كتبت جريدة الجمهورية أن الملازمينكنت رائداكان في استقبال الرئيس بالمطار. كانت الرسالة واضحة بالنسبة إليّ. ولذلك رفضت مرافقته إلى سيدي بلعباس، وكلفت صديقي الملازم عبد القادر عبد اللاوي الذي كان مسؤول كتيبة، بتوديعه، وأن يقول له إن هو سأله عني إن الشاذلي متعب وهو يعتذر عن الغياب. في سيدي بلعباس تناول الرئيس الكلمة في تجمع شعبي مؤكدا، كعادته، على التواصل الثورة الاشتراكية بنظام وقيادة موّحدين، ومعبرا عن عزمه على مواجهة المؤامرات التي تحاك ضد الجزائر في الداخل والخارج، وكان يلجأ دوما في خطبه إلى تعابير وأمثلة شعبية. مما قاله في ذلك  الخطاب: ”صندوق الطماطم دايمن فيه حبات فاسدة وإذا حبينا نحافظ على الصندوق يكفي أن نرمي الحبات الفاسدة”. وكان بالطبع يقصدنا نحن الضباط بعبارةحبات الطماطم الفاسدةوكان مغروس، المحافظ السياسي لمعالمة وهران، وهو من المقربين إلى بن بلة، يحرض باستمرار الوالي، وهو من جماعة الروشي نوار، ضد قائد الناحية العسكرية، ووصل الأمر به إلى دفع سكان بلعباس لمحاصرة ثكنة الجيش.

عشية العملية بعث إليّ الرائد شابو، كما اتفقنا على ذلك مسبقا في مكتبه، الرسالة التالية:

إلى الأخ الشاذلي. أبعث إليك التعليمات المتعلقة بالمسألة، وأطلب منك أن تبلغ عن طريق شخص وفي الرسالة الموجهة إلى سي الصالح السوفي. يجب أن تصله الوثيقة هذه الليلة.

العملية ستتم هذه الليلة. الساعة ستبلّغ لك بالتليفون في المرحلة التالية:

الناحية الأولى ستبعث نحو الساعة الثانية 2، 3، 4 أو 5 ملفات” – الرقم يشير إلى الساعة”. يجب اعتقال: مغروس، جلولي، قاديري، بوجلطية، سويحوكان هؤلاء نشطاء مخلصين لبن بلة في الجهة الغربية”.

الاتصال سيكون بالراديو والتيليفون

كما وصلتني من هواري بومدين التعليمات الخاصة بالناحية العسكرية الثانية لإعلان حالة الطوارئ عبر كل إقليمها، 

 قمت بتطبيق هذه التعليمات بكل الصرامة المطلوبة بعد تكييفها من واقع الناحية مع الحرص على السرية التامة وأوصلت التعليمات نفسها إلى صالح السوفي، قائد الناحية العسكرية الثالثة، في ذات الليلة، وعشية يوم الحسم وصلت أوامري إلى الفيالق والوحدات في كل إقليم الناحية، كما فضلت وضع الشرطة تحت أوامر الدرك الوطني، وليس الأمن العسكري، تفاديا لأي تأويل.في الساعة الواحدة والنصف ليلا قام الطاهر الزبيري والعقيد عباس والسعيد عبيد وعبد الرحمن بن سالم وعبد القادر شابو وأحمد دراية باعتقال أحمد بن بلة في بيته بـفيلا جوليثم اتصل بي الرائد شابو ليقول لي إن العملية تمت بنجاح لقد نفذ الانقلاب بسهولة كبيرة ومن دون مواجهات مع أتباع الرئيس المخلوع، واعتقل من أنصار بن بلة الحاج بن علا ومحمد الصغير نقاش ولم تحدث ردود الأفعال عبر العالم تتراوح بين الإدانة والصمت والحياد، عدا موقف فيدال كاسترو الذي أداننا بعنف بحكم العلاقة التي كانت تربطه بالرئيس المخلوع. وفي وهران استفاق السكان يوم السبت على أنغام الموسيقى العسكرية والدبابات رابضة في شوارع المدينة ولم يسجل أي حادث يذكر، لكن للأسف سقط بعض الضحايا بعد المظاهرات التي جرت في مدينة عنابة. وقد لخص بيان 19 جوان حصيلة حكم بن بلة: ”بسوء تسيير الأملاك الوطنية وتبذيرها، اللااستقرار، الديماغوجية، الفوضى والكذب والارتجال التي فرضت نفسها كأسلوب للحكم. وعن طريق التهديد والابتزاز والاعتداء على الحريات الفردية والتخويف فرض على البعض الميوعة وعلى آخرين الخوف والصمت والخضوع”.على الساعة الرابعة من 19 جوان وصلتني من وزارة الدفاع الوطني برقية تحمل ختمسري للغايةتسمح لي بحرية المبادرة لتخفيف الترتيبات المتّخذة من أجل العودة إلي الحياة العادية أخذا بعين الاعتبار للوضعية في الناحية وتطلب مني الإبقاء على حالة الطوارئ وتوخّي اليقظة.بعد نجاح العملية اتفقنا مع بومدين على عدم ترقيتنا إلى رتب عليا حتى لا نظهر في أعين الرأي العام أننا نلهث وراء الترقيات، خاصة وأن هناك من كان يعتبرنا إنقلابيين ككل إنقلابيي آسيا وأفريقيا والوطن العربي. ووجب انتظار سنة 1969 لأرتقي إلى رتبة عقيد، وهي آخر رتبة عسكرية وأعلاها حصلت عليها بعد خدمتي في الجيش منذ سنة 1955 دون انقطاع. لقد تغيّرت منذ جوان 1965 أشياء كثيرة، انفرط عقد مجلس الثورة الذي كان ينقصه الإنسجام، ولم نصدر الكتاب الأبيض المدين للحكم الفردي والذي وعدنا الشعب بنشره وتعززت الدولة بمؤسسات دستورية وربما ارتكبنا أخطاءً في التسيير كالتي ارتكبها بن بلة.في سنة 1980 قررت إصدار عفو رئاسي عن بن بلة وأصدرت بأن يعامل بما يليق بمقامه كمناضل قديم ورئيس دولة رغم اعتراض بعض الإخوة وكانت حجّتهم في ذلك أن بن بلة لم يتغيّر رغم سنوات سجنه وأنه يمكن أن يشكل خطرا على النظام في الخارج، غير أنني أصررت على إطلاق سراحه، وبعد أن اختار طريق المنفى تصالح مع آيت أحمد وأعلن معارضته نظام الحكم علنا، وذلك من حقه، غير أنه تجاوز حدرد المعارضة وراح يكيل لي تهما باطلة ويشوّه سمعتي وسمعة عائلتي.واليوم حين استرجع شريط ذكريات جوان 1965 وما قبلها تذكرني شخصية أحمد بن بلة بأحد الفاطميين، فبعد أن مهّدت له إحدى القبائل الكتامية الطريق إلى سدّة الحكم ومكنته منه أمر بأن تباد تلك القبيلة عن بكرة أبيها (أبيدوهم بني كلاب)، وفعلا أبيدت حتى تمحى أعقابها ولا يذكر لها في التاريخ فضل. كذلك كان بن بلة فبالرغم من شعبيته وهالة التقديس التي وصلت حدّ عبادة الشخصية سعى طيلة ثلاث سنوات من حكمه إلى التخلص منا واحدا واحدا لتخلو له ساحة الحكم الفردي المطلق بعد أن قدّمنا له السلطة على طبق من ذهب، كان ذلك هو الحاكم وكنا نحن القبيلة إلا أن التاريخ لا يتكرّر دوما بالطريقة نفسها.

رابط دائم : https://nhar.tv/iHVBh