مذكرات “عمي أحمد” رجل الشرطة المشهور – الحلقة الثانية –
شاركت ما بين سنتي 1965 و 1966 في أول مسابقة خاصة بعرفاء الشرطة و نجحت حينئذ في اجتيازها، مما مكنني من متابعة دورة تكوين خاصة بمدرسة الشرطة الكائنة بسيدي بلعباس لمدة امتدت لستة أشهر كاملة
و من مجموع المتسابقين الذين جاؤوا من مختلف مناطق الوطن قبل منا 300 ، استفادوا من التكوين في المدرة التي كان يديرها في تلك الفترة المحافظ عبد الصمد بينما كان نائبه المراقب العام المحافظ بخوش إسماعيل ، وقد كانا من خريجي مدارس الشرطة المصرية و كانا يتقنان اللغة العربية ، لقد طبقا علينا نظاما أشبه بذلك السائد في الثكنات العسكرية ، مع سيادة انضباط و صرامة كبيرة ، الى حد أننا خضنا تربصا ل”الأوامر” ، و تستحضرني دائما مشاهد كثيرة، في هذا السياق، كنا نتأهب في احد أيام شهر أوت لتناول الفطور منتصف النهار سارع المسؤول المكلف بتاطيرنا المدعو “شواف” بعد أن لاحظنا ضجيجا على مستوى المطعم الى إشعار المحافظ إسماعيل بالأمر ، و قام هذا الأخير دون تردد بإخراجنا و معاقبتنا ، من خلال القيام ب 10 دورات على الملعب بينما كانت درجة الحرارة في أشدها ، علما بأن منطقة سيدي بلعباس حارة جدا في فصل الصيف و تماثل درجة الحرارة أحيانا ما نشهده في مدن مثل بشار وورقلة .
و بعد استكمال الدورات العشر ، أمرنا بالرجوع الى المطعم ثانية ، أين قدم لنا طبق من الأرز ،و لكن و تحت تأثير الإنهاك والتعب الشديد والعطش فلم نكن نرغب في الأكل و لم يقدم أحدنا على ذلك من فرط الجهد المبذول و من التعب الذي انتابنا ، وقد فسر ذلك من قبل المسؤولين بأنه بمثابة إضراب عن الطعام .
و في سباح الغد تم إيفاد مسؤول سامي من المديرية العامة للأمن الوطني و يتعلق الأمر بمساعد مدير مدارس الشرطة ليباشر تحقيقا في الأمر للكشف عن العناصر التي تقف وراء الإضراب المزعوم.
وقد تم فصل الأشخاص الذين اشتبه آنذاك بأنهم كانوا وراء الإضراب و أعيدوا الى مصالحهم الأصلية ، و مند تلك الحادثة تم تشديد إجراءات الانضباط أكثر و على كافة الأصعدة .
في أعقاب انتهاء مدة التكوين و إجراء المسابقة النهائية ، لم ينجح من إجمالي 300 متربص سوى 150 تمت ترقيتهم لرتبة عريف في الشرطة ، بينما أعيد الباقون الى الأسلاك الأصلية بصفتهم عرفاء حفظ أمن و بعد مرور شهرين ، أعيد استدعاء هؤلاء الى مدرسة الشرطة بالدار البيضاء و خضع هؤلاء الى دورة تكوين خاصة كمفتشي شرطة .
أول مهمة بالجنوب الجزائري
لقد كنت من بين قائمة الناجحين ال 150 ، رفقة العزوني محمد الذي أضحى حاليا جد معروف من خلال حصصه الإذاعية، و تقرر تحويلنا الى مناطق بعيدة و مغايرة عن تلك التي كنا نعمل فيها سابقا ، و على اثر ذلك نقلت من معسكر لأجد نفسي في مدينة تقرت ، و مباشرة بعد وصولي الى المنطقة، أسندت لي مهمة ضمان نيابة ضابط الشرطة الذي كان بمثابة المحافظ، و مع مرور الوقت بدأت أعتاد على الحياة الجديدة بالجنوب .
عكفت خلال تواجدي بالمنطقة على اقامة علاقات و التعرف بالسلطات المحلية ، كما استطعت بفضل الاتصالات و التواصل مع العديد من الأشخاص هناك أن أفتك ثقة و تقدير السكان ، و أريد أن أشير هنا على سبيل المثال لا الحصر حادثة عايشتها سمحت لي بالاقتراب أكثر من السكان .
في تقرت كان هنالك فريقين لكرة القدم الاتحاد و الوداد و في ذات يوم ، برمجت مقابلة تجمع الفريقين ، إلا أن الحكم الذي عين لإدارة المباراة من قبل رابطة ورقلة تعذر عليه المجيء و غاب عن اللقاء ، و حينما لاحظ عريف الشرطة دبيب بلقاسم الذي كان متواجدا بالملعب غياب الحكم ، نصح الوالي بالاتصال بي و بدعوتي لكي أكون حكما للقاء لأنه كان على علم بأنني كنت سابقا حكما على مستوى رابطة وهران.
لم يتردد السيد الوالي غنايزي اذا لم تخونني الذاكرة في القبول بالفكرة و دونما تأخر، قدم الي و اقترح علي الفكرة ، و طلب مني مصاحبته الى الملعب ، مشيرا بان الجميع كان بانتظاري لإدارة المباراة المحلية.
و مباشرة بعد وصولي الى الملعب ، فهمت بأن العريف دبيب هو الذي كان وراء المقترح ، و هو الذي كشف السر ، و قد كافأته بتسليمه الشارة أو أحد الأعلام الخاصة بمساعدي الحكم ، و أريد أن أوضح بأن العريف دبيب كان يمتاز بضخامة البنية .
لقد بلغت المقابلة نهايتها دون أن نسجل أي حادث يذكر، بينما كانت كل المقابلات السابقة لا تصل الى التسعين دقيقة على الرغم من أنها كانت تدار من قبل حكم رسمي أو أحد المتطوعين .
و بعد انتهاء المباراة، خرج الجميع ليحتفل و عرفت المدينة عرسا كبيرا، و نظمت في أعقاب ذلك مأدبة على شرف الفريقين ، و من تلك المباراة ، كبرت في أعين الناس في تقرت و نلت تقديرهم و بمناسبة الفاتح ماي من عام 1967 الذي يصادف ذكرى عيد العمال ، استدعاني والي الواحات آنذاك و طلب مني إدارة مباراة أخرى في كرة قدم نظمت بورقلة بمناسبة تنظيم احتفالات الفاتح ماي.
الا أن رئيس الدائرة لمدينة تقرت اعترض على ذلك مبررا قراره برأي الوالي أيضا و التي مفادها بأن وجودي أو بقائي ضروري في تقرت و هو مطلب للسكان أيضا، بالنظر للاحتفالات التي كانت ستنظم بالمنطقة .
و لأنني نلت احترام و تقدير السكان فان هؤلاء جعلوني ضيف شرف في كل المناسبات و الاحتفالات و لم أواجه البتة أي مشكل أو إخلال بالنظام العام أو أية جنحة كان علي تسييرها أو معالجتها باستثناء الملفات المرتبطة بالإجراءات الإدارية.
و بما أن مدينة تقرت كانت تحت إدارة عسكرية في زمن الاحتلال الفرنسي ، فان السكان خاصة أولئك الذين كانوا يقطنون خارج المدينة لم يكونوا مسجلين أو مقيدين في دفاتر الحالة المدنية ، و بمساعدة وكيل الجمهورية و رئيس المحكمة عمدنا الى مباشرة التدابير و الإجراءات اللازمة و المناسبة للتوصل الى أحكام تسمح للمعنيين بالأمر بالحصول على هوية بدلا من وصفهم بدون لقب معروف أو أبو أو بن ، لقد تم تثمين العمل المنجز و المحقق و لكنني تأسفت لعدم تمكني من الذهاب أبعد من ذلك ، لأن رئيس الدائرة الأمنية لمنطقة الواحات آنذاك و التي كانت تشمل المناطق الممتدة ما بين ورقلة و تمنراست و تقرت و الوادي و حاسي مسعود و جانب الخ…قرر تحويلي الى فرع شرطة الاستعلامات و الحدود بمدينة الوادي ، لكنني لم أمكث وقتا طويلا بالمنطقة، حيث تقرر تحويلي ثانية الى مدينة وهران.
وهران الوجهة الجديدة
و فور وصولي الى المنطقة كنت بانتظار افتتاح معرض تقرر تنظيمه بقصر المعرض ، و في تلك الفترة تقرر نقلي الى محافظة سانت أوجين ، و بعد افتتاح المعرض ، وضع تحت تصرف عدد من عناصر الأمن و المستخدمين و قمت بتغطية التظاهرة طيلة الفترة المحددة لها
بعد استكمال المهمة على أكمل وجه قام والي مدينة وهران السيد مغيري بالاتصال بالمحافظ المركزي السي بوبكر و اقترح عليه الإبقاء علي في المنطقة بسبب تواجد قصر المعارض و ملعب زبانة و هو ما يتطلب تأطيرا جادا و قادرا على مواجهة أي طارئ ، خاصة مع توافد الجمهور على المكانين ، حينها تم تحويلي الى الدائرة التاسعة التي كانت تغطي أحياء مديوني و الحمري و قد ضمنت تغطية أول مقابلة بوهران ، و كان الأمر يتعلق بمباراة جمعت ما بين فريق مديوني بنصر حسين داي و قد أدار اللقاء الحكم السيد بن غزال من مدينة قسنطينة ، ساد المقابلة جو مشحون و متوتر، فكل فريق كان يريد الظفر بالمقابلة و بنقاطها و الكل كان ينتظر نشوب أعمال عنف أو مشادات بين المناصرين ، كنت لا أزال شابا ، و رقيت مند مدة قصيرة الى رتبة أعلى ، لذلك ارتأت الاتصال بالسيد بن غزال بين الشوطين و طمأنته باتخاذ كافة التدابير الأمنية ، و نصحته بعدم التركيز كثيرا بما يحدث في المدرجات ، و ضمن نطاق الصلاحيات المخولة الي قررت طلب دعم إضافي لطمأنته أكثر .
بن غزال الذي كان قوي البنية أكد لي بأنه لم يهب يوما و لم يعر اهتماما كثيرا للضغوط و أنه يعكف على التحكيم و تسيير المباراة دون خوف من أي جهة كانت.
قرر الحكم مواصلة مهمته الى نهاية المباراة و ألح علي بضرورة التكفل بتأمين النفق الرابط بين الملعب و غرف تغيير الملابس ، و أتذكر أنه خلال الشوطين كان أحد مسيري ملاحة حسين داي الذي التقيت به لاحقا في العاصمة ، كمسير لأحد المتاجر المتخصصة في الألبسة بشارع طرابلس ، قد تعرض فعلا للاعتداء بداخل النفق و قد سعيت شخصيا لإنقاذه من أيدي الأشخاص الذين قاموا بالاعتداء عليه .
بعد مرور ثلاثة أشهر من الخدمة في مدينة وهران استدعيت للقيام بدورة تكوين في الانقاذ على مستوى الحماية المدنية بالعاصمة بثكنة خليفي و مدرسة برج البحري النقيب ماتيفو سابقا ، كان ذلك بتاريخ 3 مارس 1968 بالضبط .
خلال مدة التربص أتيحت لي الفرصة للتعرف على أغلب إطارات الحماية المدنية ، من بينهم على وجه الخصوص النقيب زموري و الملازم الأول بوبكر و الملازم بجوج و بلولدي و بوكواسي. و جورج الخ…
إضافة الى ضباط الصف سيد علي صادق و بن عبدي جمال.
كان سيد علي و صادق رئيسا فرقتي “أ” و “ب” ، أما بن عبدي فقد كان يهتم بالتكوين للغطس ، بينما كان الملازم بجوج مدير التربص و المشرف عنه ، لقد كان شخصية متميزة و كان يتمتع بتكوين جيد و معارف واسعة في مجال تخصصه و كان هو شخصيا يقدم لنا الدروس الأساسية سواء النواحي النظرية أي كتابة أو التطبيقية في الميدان ، بينما كان الرقيب فراوسن أحسن مدربنا و المكون في مادة الرياضة ، و كانت الدروس تتم على مستوى ثكنة خليفي و بمدرسة برج البحري ، أما ممارسة الرياضة فقد تتم على مستوى ملعب المحمدية و على مستوى لافيجري.