جزائريون نجوا من خطر البحر ليتيهوا في الحياة الايطالية: روما ولا هوما
“ياكلني الحوت، ولا الدود في هدك البلاد”، بهذه العبارة فضل مهدي بلكنته “العنابية” المفعمة “بالرجولة” تلخيص سبب تركه الجزائر والمخاطرة بنفسه متحديا أمواج البحر
“ياكلني الحوت، ولا الدود في هدك البلاد”، بهذه العبارة فضل مهدي بلكنته “العنابية” المفعمة “بالرجولة” تلخيص سبب تركه الجزائر والمخاطرة بنفسه متحديا أمواج البحر من اجل هدف واحد لا غير، الوصول إلى أوروبا وفتح الأبواب التي ظلت مغلقة في وجهه طيلة سنوات حتى ضاع الأمل. مهدي هو واحد من بين مئات “الحراقة” الجزائريين الذين خاضوا مغامرة الوصول إلى “الايلدورادو” دون استصدار تأشيرة ولا المرور عبر إجراءات شرطة الحدود. هؤلاء الجزائريين يعيشون اليوم في مدينة روما على طريقتهم الخاصة بهم، بين مطاردات الشرطة من جهة والمنظمات الإنسانية من الجهة الأخرى، بين القانون الايطالي الذي “يحرم” توظيف المقيمين غير الشرعيين، وضرورة الظفر بلقمة العيش في عالم كل شيء فيه بـ “الاورو”… هم شباب تائه بين الخوف من الطرد الإداري والعودة نحو نقطة الصفر، والأمل في يوم “يفتح فيه الله عليهم” ويحصلوا على “الوثائق” التي تمكنهم من العيش كبشر “كاملين” في كامل الفضاء الأوروبي. إلى ذلك الحين، سيبقون في مدينة الساحات العمومية والنافورات المائية “مقيمين مع وقف التنفيذ”. النهار الجديد غاصت في عالم “الحراقة” الجزائريين ونقلت صورة حية عن يومياتهم في العاصمة الايطالية “روما”.
الوصول إلى “الحراقة” في روما ليس بالأمر العسير، بل يمكن معرفة مكانهم انطلاقا من مطار الجزائر الدولي، حيث يكفي طرح السؤال حول مكان تجمعهم على أي جزائري مقيم هناك، لتكون نصيحته بالتوجه إلى “ستاسيون تارميني” نهائي القطارات، لكن ذات النصيحة لا تنتهي إلا بأخرى وهي ضرورة توخي الحذر لان “المكان يعج باللصوص”. مثل هكذا نصيحة تعطي الانطباع بان المكان لن يكون نهائي القطارات وإنما إمبراطورية للمجرمين، لكن بعد نحو عشرين دقيقة في القطار من مطار “ليوناردو دافينشي” الدولي، تعطي “ستاسيون تارميني” صورة أخرى غير تلك التي رسمت في الأذهان، الألوان واللوحات الاشهارية تملئ المكان، مكبرات الصوت تتعالى للإعلان عن موعد الرحلات، كل المقاهي و”البارات” ممتلئة بالناس من كل الجنسيات يتجاذبون أطراف الحديث والمزاح حول الطاولات أو حول مطافئ السجائر الموضوعة في الهواء الطلق، فالتدخين ممنوع في ايطاليا داخل الأماكن العمومية المغلقة. داخل المحطة،فضاءات البيع كلها منارة وكل السلع التي تتبادر إلى الأذهان معروضة في الواجهات، من الكتب وآخر الإصدارات، إلى غاية الأحذية والجوارب. بين المحلات، الناس يسيرون في سرعة عبر السلالم الميكانيكية المنتشرة في الطوابق الثلاثة، وخارجها لا يتوقفون إلا عند إشارة المرور الحمراء، “ستاسيون تارميني” هي واجهة لعاصمة واحدة من اكبر الدول في العالم.
في النهار لا يوجد شيء يدل على تواجد جزائريين في محيط “تارميني”، اغلب المحلات في الأحياء المجاورة للمحطة مملوكة من طرف جنسيتين، إما من الصين أو البنغلاداش الذين نصبوا حتى طاولات بيع الملابس والحقائب عبر الأرصفة. الايطاليون يقولون أن السنوات مرت عليهم ولم يتفطنوا حتى وجدوا اغلب المحلات مملوكة من طرف الصينيين والبنغاليين. ومنهم من يمزح بقوله أن روما تحولت إلى مقاطعة صينية، ولا يتوانى في إبداء استعجابه إذا علم بأن الصينيين ملكوا محلات الألبسة والأقمشة في الجزائر. لكن بالنسبة للمغاربة، فالايطاليون يتكلمون عن المغربيين والتونسيين المتواجدين بكثرة، أما الجزائريون فهم تقريبا مجهولون عندهم أو ينكرون معرفتهم، فالقلة القليلة التي تخوض في الحديث،لا يعرفون عن الجزائر سوى ما نقلته وسائل الإعلام عن جرائم الإرهاب، وأما من سبق له وان تعامل مع الجزائريين، فلا ينهي كلامه إلا بالثناء على خصالهم الحميدة.
على مدار الساعات بعد الظهير، لاشيء كان يدل في الجوار على تواجد الحراقة، أما لقاؤنا معهم فقد كان صدفة في شارع “راتاسي” المجاور للمحطة، شاب تقدم ليسال إشعال سجارته لكنه فعل ذلك مباشرة باللغة العربية، وتفسيره لذلك كان “ملامح الوجه المغاربية التي يسهل التعرف عليها بين جنسيات العالم”. كريم، شاب نحيف وقصير القامة، يتكلم بشكل سريع ويديه تتطايران في السماء، في حين تنزلق عيناه الحادتين خلف نظارته الطبية في كامل الاتجاهات. اخذ وعطاء في الحديث واستفسارات عن البلد الأصلي والهدف من الرحلة إلى روما، حتى اقترح اصطحابنا إلى “البار” حيث سيلتقي بأصدقائه الجزائريين، كلهم “حراقة” قادمون من مدينة عنابة. لكنه في الطريق اشترط عدم ذكر كل التفاصيل حول المكان الذي يلتقي فيه كالعادة مع أصدقائه وذلك لأسباب مرتبطة بطبيعة عمله. من أب جزائري وأم مغربية، تحصل كريم البالغ من العمر ستة وعشرون سنة، على الإقامة في ايطاليا بفضل شقيقته الكبرى، “دخلت ايطاليا بعد فوزي بشهادة البكالوريا في مدينة الدار البيضاء، سجلتني على أثره شقيقتي في جامعة روما تري ومنها تحصلت على شهادة مهندس، وبالموازاة مع الدراسة عكفت على تعلم المزيد من اللغات الأجنبية حتى أصبحت أجيد الاسبانية والايطالية بالإضافة إلى الفرنسية التي تعلمتها في المغرب…كل هذا التحصيل العلمي، لكنني اكسب قوت يومي من تجارة المخذرات بالإضافة إلى بيع وشراء المسروقات”. في الطريق إلى “البار” ظل كريم يروي قصته مع العمل في ايطاليا ويستعين في حديثه بإظهار بطاقة الإقامة وسيرته الذاتية الذين يحملهما دوما عله يلتقي يوما ما مع فرصة عمره لتوديع حياة الليل. ” منذ إنهاء دراستي، لم احصل سوى على عمل واحد، نادل في المقاهي، لكنه ليس عملا مستقرا. زيادة على ذلك، اخصص 650 اورو شهريا للإيجار في حين لم يتعد أحسن رواتبي 1400 اورو، ضف إلى ذلك مصاريف الغاز والكهرباء والقائمة طويلة. هذا ما دفعني إلى البحث عن عمل إضافي، فلم يتفطن لقدراتي سوى تجار المخذرات”. في كل مرة، كان كريم يتحاشى الخوض في الحديث عن الأشخاص الذين “وظفوه” ويرفض حتى الإفصاح عن جنسيتهم، كل شيء بالنسبة له هو “قضاء وقدر جعلاه يتلقي بهم”. لكنه بالمقابل يسترسل في شرح قدراته في تسيير الأعمال، فالمبدأ الذي يتفق عليه الجميع هو السرية ثم تأتي طريقة عمله الخاصة به والتي تقوم على القناعة التي يجب التمسك بها في مثل هذا العمل الذي يتهاطل فيه المال كالأمطار الاستوائية، أما المخاطر فهي كالطوفان في وديان الصحراء لا احد يعلم من حيث تأتي والى أين ستجرف صاحبها. لذلك قرر كريم حصر تجارته في الهيروين في عدد محدد من الأشخاص “الأمر الأساسي بالنسبة لي هو عدد الزبائن الذين لا يتجاوزون العشرة، أتعامل معهم عبر الهاتف لتحديد الموعد وكمية البيضاء (الهيروين) التي يحتاجونها، زيادة على ذلك فاغلب زبائني من الأثرياء أو لهم دخل شهري عال تعرفت عليهم في الملاهي الليلية وأفضل هذا النوع لأنهم لا يجلبون الشبهات”. وسط كل هذه التفسيرات والشروح، وصلنا إلى “البار” أو المقهى ولا يزال لدى كريم سوى الإفصاح عن دخله اليومي من الهيروين. الرد كان سريعا ولم يخل من ميتافيزيقا المجتمعات العربية “كل يوم وبركته”، ليشرع مباشرة في التسليم على أحبابه والتعريف “بصاحبه الصحفي القادم من الجزائر للقاء الحراقة”.
صادفنا “حراقة” ماتوا عطشا في عرض البحر
مع وصولنا، كانت الشمس قد غابت منذ مدة عن سماء روما، ومع أول خطوات في الداخل ظلت العيون تراقب الوجه الذي يزورها لأول مرة، حسب كريم الجميع يتعارف في هذا “البار”، اغلبهم من إفريقيا وأمريكا اللاتينية، متجمعين رجالا ونساء حول الطاولات في اليد زجاجة جعة والنادل الايطالي “ماركو” يحوم بينهم، يدخل في قصصهم ويجادلهم وكأنهم أصدقاء منذ الطفولة، وإذا أراد لفت انتباه القاعة إليه، يغير وقع الموسيقى من اللاتينية إلى الروك التي يقابلها الجميع بكلمة “نو”. بين الحين والآخر يترك شخص جماعته نحو الطاولة المجاورة ليكمل معها ما تبقى في الزجاجة. أما نحن فقد جلسنا إلى طاولة مهدي وسمير ومصطفى.ثلاثتهم من مدينة عنابة وكلهم وصولوا إلى روما “حراقة” عبر البحر منذ بضعة أشهر ولا يزالون كذلك، باستثناء مصطفى الذي خاض التجربة الايطالية ابتداء من سنة 2002 ليحالفه الحظ في الحصول على الإقامة خلال فترة وجيزة،”دخلت أوروبا عن طريق تأشيرة لمدة شهر استصدرتها من السفارة الفرنسية، لكنني تجاوزت المدة وتوجهت إلى نابولي التي لي بها معارف، نصحوني بالبقاء فالجميع كان يتحدث عن قانون لتسوية الوضعية. وكذلك كان الحال بعد سبعة أشهر من وصولي أصدرت حكومة برلسكوني قانون (بوسيفيني)، فأعانني معارفي على تدبر أمر عقد العمل الذي اشتريته من احد الايطاليين بمبلغ 2300 اورو، 1500 اورو كنت ادخرها من تجارة المسروقات والباقي اقترضته من أصحابي”. بعد الأشهر السبعة الأولى، أصبح بإمكان مصطفى الذهاب حيث يشاء، فقد انتقل للعيش في العاصمة روما.
بالنسبة لمهدي وسمير القادمين من حي “بلازدارم” بعنابة، الطريق لم يكن نفسه منذ البداية، فمهدي البالغ من العمر سبعة وعشرين سنة، قرر خوض المغامرة عبر البحر خلال شهر افريل المنصرم بعدما فشل خمس مرات في الحصول على التأشيرة من سفارة فرنسا.
أما سمير البالغ ذو الثلاثة وعشرين سنة فلم يكلف نفسه عناء “الوقوف في طوابير السفارات” ليختار أسهل وسيلة من حيث الإجراءات وأصعبها من حيث الخطورة.
بداية المغامرة كانت عندما استقر سبعة أصدقاء على نفس الرأي “الرحيل من هذا البلد مهما كانت العواقب”، عندها اشتروا زورقا ومحركا بأربعين مليون سنتيم، ثم شرعوا في
التحضير لرحلتهم “خلال اليومين الذين سبقا الرحلة استفسرنا لدى الصيادين عن حالة البحر وانطلقنا في حدود الساعة العاشرة ليلا من شاطئ واد بوقيراط لأنه شبه خالي خلال شهر افريل.أخذنا معنا دلوا بسعة تقارب 30 لتر ماء، ودلوين بسعة 20 لتر مازوت وعلبة أقراص مضادة لدوار البحر، كما احضر كل واحد منا قرص من عجينة التمر ليقتات منه خلال الرحلة، أما اللباس فلم نأخذ معنا سوى ما كنا نرتدي…أهم شيء هو الماء والمازوت وجهاز جي بي آس، فقد كنا نتوقع أن يصل عمر الرحلة في أسوء الأحوال إلى يومين أو ثلاثة “. خلال حديثه، كان مهدي يحمد الله في كل مرة لأنه أوصلهم سالمين” صبيحة اليوم الثالث من الإبحار، التقينا بقارب على متنه 12 عشرة فردا،اتضح من كلامهم أنهم عرب لكنهم ليسوا من الجزائر أو تونس، بالإضافة إلى آخرين معهم أفارقة، بمجرد أن رأونا حتى شرعوا في طلب النجدة والماء واتضح فيما بعد أن اثنين منهم ماتوا، فما كان أمامنا سوى أن القينا لهم قارورتي ماء وابتعدنا عنهم بسرعة لأنه لم يكن بوسعنا فعل أي شيء لهم، فإما أن ننجوا ونخبر من سيأتي لنجدتهم أو نموت معهم”. يوم وليلتين بدون نوم، وفي الصباح الموالي موعد مع الجثث في عرض البحر، لا شيء ينذر حسب هؤلاء بقروب موعد الوصول إلى بر الأمان، لكن الوقت والمسافة لا يسمحان إلا بالمواصلة إلى الأمام، أما القرار قد اتخذ في مقاهي عنابة “ياكلني الحوت، ولا ياكلني الدود في البلد”.
“أفكر دماغك” المبدأ المقدس لدى الحراقة
الحركية داخل البار، تزداد كلما غاصت روما أكثر في الظلام، من حولنا الجميع ينصت لقصة مهدي وسمير بالرغم من أنهم سمعوها مئات المرات. بالرغم من التحاق مراد -مغربي معروف لدى جماعته بخفته في سرقة المحافظ- بالطاولة، إلا أن سمير لا يطيل كثيرا في التسليم عليه ليطلب منه الجلوس و يستأنف هو قصته. “مع عصر اليوم الثالث، قبض علينا حراس الشواطئ على بعد يقارب 20 كيلومتر من سردينيا، ليأخذونا بعدها إلى البر حيث أجريت علينا فحوصات طبية وتناولنا حساء ساخنا ثم قضينا ليلتنا الأولى في مرقد وفي الصباح الموالي نقلنا نحو مركز الاستقبال بسردينيا حيث أخذت بصماتنا وتركنا في انتظار إتمام باقي الإجراءات، لكننا تمكنا من الفرار عبر السياج بعد أسبوع من توقيفنا، بينما بقي رفاقنا محتجزين ولم تردنا أخبارهم من يومها”. من جزيرة سردينيا إلى العاصمة روما، مئات الكيلومترات جزء منها عبر البحر، واجتياز هذه المسافة صعب خاصة بالنسبة لشابين جزائريين، ليس لديهم أي وثيقة ولا يملكون نقودا في بلاد لا يعرفون فيها احد ولا يفهمون لغة أهلها، في مثل هذه المواقف يبدأ العمل بمبدأ “دبر دماغك”. فحسب مهدي أول شيء قاموا به هو التسكع في أحياء “كالياري” عاصمة سردينيا قبل الشروع في البحث عن مال الرحلة نحو روما. “أول 300 اورو تحصلنا عليها وجدتها في محفظة سرقتها من كهل ايطالي في الحافلة وقبله سرقت واحدة ولم أجد فيها أي شيء، وبتلك النقود توجهنا إلى روما حيث التقينا في أول يوم بأولاد عنابة في محطة تارميني وهم من تكفلوا بنا الأسبوع الأول وأطلعونا على كل ما يمكن عمله في ايطاليا، بعدها تعرفت أنا على كريم وانتقلت للعيش معه في حين لا يزال سمير عند مصطفى” بالرغم من عثورهما على بيت ينامون فيه، إلا أن الشابين العنابيين لا زلا يقتاتان من السرقة، ففي مثل هذا الوضع يرى مهدي انه “لا يوجد فرق بين الحلال والحرام أو بالأحرى نحن الجزائريين انفنا من زجاج، إذا سقط انكسر لذلك أفضل السرقة على التسول”.
المجازفة في أعالي البحار، لم تكن لها قيمة في عين مهدي مقارنة بالحياة التي كان يعيشها في عنابة “منذ خروجي من الثانوية لم أجد أي عمل مستقر، كنت أتدبر أمري في البيع والشراء وكراء المظلات الشمسية في الصيف إلى أن انتهى بي المطاف في ملهى الشمس الحمراء الذي اشتغلت فيه عون امن لمدة ثلاثة سنوات، هذا العمل ساعدني كثيرا لأنني كنت اجني الكثير والأهم يكمن في كونه عملي ليلي، الأمر الذي يسمح لي توفير مكان نومي لإخوتي الثلاثة الذين كنت أتقاسم معهم الغرفة”، أما سمير فالشيء الوحيد الذي لا ينساه ولايزال يبحث عن جواب له هو عدم حصوله على كشك بالرغم من عشرات الطلبات التي تقدم بها؟ بعد قرابة ساعتين من الحديث والاستفسارات، عاد كريم ليذكر صاحبه بالموعد الذي حدداه تلك الليلة، فخلال دقائق يفترض أن يلتقيا أما ساحة”سان جوفاني” بفتاتين من أصل برازيلي، لكن مهدي فضل أن ينهي لقائنا بالدعاء أن يفتح الله عليه يوما ما ويسوي وضعيته القانونية ويتوب بصفة نهائية.
السوناتوريا والفلوسو، أمل الحراقة
مساء اليوم الموالي، كانت الوجهة حي “كابو باسو”،حيث نصحنا كريم وأصحابه بالتوجه للالتقاء بنوع آخر من “الحراقة”، اولئك الذين قضوا أزيد من عشرة سنوات في ايطاليا دون أن يسووا وضعيتهم. أول لقاء كان مع عمر، شاب وهراني في الخامسة والثلاثين من العمر يقيم في ايطاليا منذ 12 سنة خمسة منها فقط بصفة قانونية. عمر هو الآخر وصل إلى ايطاليا عن طريق البحر، لكن على متن باخرة “عندما سئمت من حالتي الاجتماعية قرر ت الرحيل من الجزائر ولم أكن املك حتى مصاريف الرحلة، لذلك توجهت إلى ميناء ارزيو، حيث كان لي احد معارفي هو الذي سهل صعودي على متن إحدى البواخر..لم أكن اعلم وجهتها حتى وجدت نفسي في ايطاليا”. الطريق التي سلكها عمر عشر سنوات خلت، هي نفسها التي يسلكها الشباب اليوم، السرقة والمتاجرة في المسروقات، إلى أن التقى بزوجته الايطالية ذات الأصول الجزائرية، وبفضل قرانه حصل على الإقامة وابتعد عن طريق الشر. بالنسبة لـ”عمر” فرص النجاح اليوم في ايطاليا أصبحت نادرة مقارنة مما كانت عليه في وقت سابق “القانون الايطالي يتساهل حاليا مع الحراقة، حيث انه إذا القي القبض على شخص بدون وثائق لن يطرد إلى بلده الأصلي ما لم يعثروا على وثيقة تثبت ذلك، بالرغم من أنهم يتعرفون على الجنسية الأصلية بمجرد النطق ببعض الكلمات. لكنهم بالمقابل فرضوا عقوبات صارمة وغرامات خيالية على الايطاليين الذين يوظفون المهاجرين غير الشرعيين، وبذلك يكون الحراق محروم من الحصول على عمل ولن يجد أمامه سوى طريق السرقة وحتى في حالات السرقة، فان المقيم الذي لم تثبت هويته بالوثائق، سيقضي العقوبة وتعطى له ورقة الطرد “الفوليو دي فيا” الذي يترك للحراق مهلة خمسة أيام للخروج من الأراضي الايطالية دون اصطحابه إلى الحدود”. بالموازاة مع “ميزة” عدم الطرد ما لم تثبت الهوية، يفضل الكثير من الجزائريين ايطاليا بسب القوانين التي تصدرها من الحين إلى الآخر، أهمها”السوناتوريا” وهي قوانين تضع شروطا على فئة معينة لتحصل على حق الإقامة، أو “الفلوسو”، والتي تعني جلب اليد العاملة من الخارج، غير أن الطريقة التي تتبع في غالبا الأحيان كلما تعلق الأمر بالفلوسو، هي “إعطاء الحق للحراقة المتواجدين في ايطاليا الذين يحصلون على وثيقة عمل يعودون بها إلى بعدهم الأصلي للحصول على تأشيرة عمل وبعدها بطاقة الإقامة”. حسبما أوضح كمال الدين بلعيطوش رئيس جمعية شمال إفريقيا بروما التي تأسست سنة 1992 على اثر قانون مارتيلي، الذي خول للجاليات الأجنبية المقيمة في ايطاليا تنظيم نفسها في إطار جمعيات. لكن هذه الجمعية منذ اشتداد نزوح الحراقة الجزائريين نحو ايطاليا، غيرت طريقة عملها من التظاهرات الثقافية إلى النضال الاجتماعي “فهي تتكفل خاصة بمتابعة شؤون الحراقة وشرح القوانين التي تخصهم، كما توفر المحامين لهم وكذا توجيههم للاماكن التي يمكنهم الحصول فيها على الأكل والرعاية الصحية”.
الأماكن التي يمكن فيها لهؤلاء أن يحصلوا على وجبة ساخنة وكذا الرعاية الصحية، هي كثيرة في روما وأهمها منظمة “كاريتاس” والتي يقصدها الحراقة خاصة لأنها لا تشترط المعلومات الدقيقة عن الهوية والحفاظ على سرتها، بل هدفها الرئيسي حسب “البيرتو كالوياكومو” مسؤول الإعلام لدى المنظمة بروما هو”إيجاد كافة السبل من اجل خلق جو للتعايش بين كافة الثقافات والديانات في مدينة روما وفقا لميثاق حقوق الإنسان، بالإضافة إلى ذلك فهي تقدم بعض الخدمات منها الإطعام والدواء إلى جانب الإيواء،وهذه الخدمات نقدمها على أساس أنها الحد الادني إذا ما تكلمنا عن حقوق الإنسان، نوفرها لكل من هو بحاجة إليها”. كل المغتربين الذين التقينا بهم لم يتوانوا في إبداء إعجابهم وتأثرهم لإنسانية الايطاليين، من بينهم عمر الذي كاد أن يفارق الحياة عند وصوله إلى ايطاليا “بمجرد أن رست الباخرة القي علي القبض من طرف الشرطة وكادوا يعيدونني أدراجي لو أنني لم اصب بألم حاد في المعدة، نقلت مباشرة على أثرها نحو المستشفى حيث أجريت علي عملية جراحية وبقيت هناك ثلاثة أسابيع حتى شفيت تماما، وخلال تلك الأسابيع عمل الأطباء عندما علموا قصتي كل ما بوسعهم حتى لا تعيدنا الشرطة إلى الجزائر. ومنذ ذلك اليوم وأنا هنا حتى سويت وضعيتي”. في حديثه عن الجانب الإنساني، لم يخف عمر أمنيته في أن تعود ايطاليا لسابق عهدها حتى يتمكن باقي “الحراقة” من تسوية وضعيتهم هم كذلك، فهو يعرف حق المعرفة أي حياة يعيشون والى ماذا ستتحول إذا ما القي عليهم القبض وعادوا إلى الوطن “فالشيء الوحيد الذين دفعهم للمقامرة بأرواحهم بين أمواج البحر هو الأبواب التي وجدوها كلها مغلوقة في وجوههم إلى أن غابت عن أذهانهم فكرة النجاح، أما في ايطاليا وأوروبا بشكل عام فهو يعرف أن فرص النجاح متعددة خاصة لذوي السيرة الحسنة، فكما هو معروف لدى الحراقة “الدنيا تبتسم لك في أوروبا مرتين في اليوم، عندما تشرق الشمس وعند مغيبها”.