«بكالوريا» متميّزة.. كل الشكر لبن غبريت
هذا ما أنتجت لنا آليات ومصفاة الانضباط والصرامة
إنها السياسة الدقيقة التي أحكمتها وحكّمت بها المشرفة على قطاع التربية قبضتها، قد أتت أكلها وأثمرت، بل أبانت وفصلت خطوط الطول من العرض، حتى ونحن نختلف معها في كثير من المسائل، إلا أننا نبارك فيها هذه الجرأة على ضبط أهم محطة مفصلية في حياة الإنسان.
فقد جاءت نسبة نجاح في «الباك» لهذه السنة قريبة من فوق المتوسط، حتى أن الجميع متأكد من وجود بعض التجاوزات الطفيفة في بعض المراكز، لكن الكثير من الملاحظين يمنّون النفس أن تنعدم نهائيا، ولم لا مع الطبعات القادمة، ولكن الأهم والمهم، هو أن الغشّ المباح والحر تم كبح جماحه وخنقه لدرجة اللا تنفس، حتى تصل الاستراتيجية المخطط لها مبتغاها.
ورغم ذلك فهذه النتائج لم تعجب أو ترق بعض النقابات التربوية كما قرأنا، ولا ندري إلى حد الساعة السبب الرئيسي أو المراد من وراء هذا الاحتجاج، بل هو وصمة عار في جبين هذه النقابات المستقلة.
والتي أرادت أن تكون النتائج أفضل وأكثر، وربما هي تلوح إلى أن وزارة التربية قد أهملت بتاتا ما يمكن نعته بسياسة الإنقاذ، التي دائما وأبدا كانت تحافظ على توازنات الجبهة الاجتماعية، وهذا التهاون حتى لا نقول المهادنة، كان خطرا عظيما في حق التربية والتعليم، بل جُرم عقيم أحالنا على تشجيع الرداءة والبلادة.
فعندما تلاحظ نسبة النجاح لهذه السنة، تطرح على نفسك سؤالا ذكيا، وهو كيف كان حال «البكالوريا» في السنوات الفارطة؟، أي يوم كانت نسبة النجاح عالية وخيالية، ويوم كانت ثقافة الغش بضاعة رائجة، بدءا من المراقب إلى حاجب المؤسسة، أي أن الجميع كانوا في نفس الفلك يسبحون ومتواطئين في هذه «الجريمة الحضرية» التي فرّخت وأنتجت لنا جيلا كاملا يعجز عن كتابة جملة مفيدة!.
فقد كانت حيازة شهادة «البكالوريا» بالنسبة للكثيرين عبارة عن لعبة ذكية لا تختلف عن الألعاب الإلكترونية، الشاطر والجريء هو الأكثر قربا منها، وليس المتعلّم المجتهد، حتى وأن بعض العلماء يقولون إنه كان بمكان على الطالب توظيف هذا الذكاء في الفهم والتعلم، وليس له أن يلبّسه لبوس الغش والتمويه والزيف والكذب.
عندما أرخت الوزارة يدها على هذا القطاع الهام وأدارت ظهرها، كنا نسمع ونلحظ بأن «الباك» لم يعد عقبة بقدر ما كان لعبة تسلية يمكن تجاوزها لو توفرت لدى الممتحن بعض العلاقات والحيل الشيطانية، إلى درجة أن فقد مصداقيته نحو الحضيض، ولم يعد هناك فرق بين مجتهد طول السنة وآخر يجتهد بكل الوسائل أيام الامتحان فقط.
وفي الأخير، تستقبلهم الجامعة بنفس الأحجام والمواصفات وهذا ظلم ما بعده ظلم، جاء نتيجة غياب المسؤوليات والضمير المهني لدى بعض العاملين والمشرفين على هذا القطاع الحساس، لكن بعد أن عزمت الوزارة على شدّ الحزام جيدا، شاهدوا وانظروا ماذا أنتجت لنا آليات ومصفاة الانضباط والصرامة.
ورغم ذلك - كما أشرنا – لم تعجب هذه الطريقة حتى الأولياء الذين اعتادوا على دفع أبنائهم وإقحامهم بشتى الطرق نحو حيازة هذه الشهادة والدخول إلى الجامعات ولو هم صم بكم!، فقد كان همهم الوحيد هو التسمية، أي الظاهر وليس الّلب والجوهر.
إن هذه الخطوة المباركة بلا شك سوف تعيد إلى هذه الشهادة مكانتها وهيبتها، بل هي صفعة مفيدة لليقظة من السبات المرضي الذي أوصل أحوالنا إلى ما نحن عليه، لأن الأمم العظمى تقاس بحجم نجاحاتها المبنية على جهود مبذولة وكفاحات مريرة، وليس أن تبني وتهيكل أفرادها وتشجّعهم على الاتكالية والعجز ثم تندب الويلات يوم تجني الخيبات والهزائم، فلنحفظ هذا الدرس جيدا ونستفيد من الوعي الذي يعني تطبيق مجموعة من المبادئ على أرض الواقع، وليس الدوس عليها بحجة أن الكل أراد ذلك، وأن العصر يسير وفق هذه المعايير الجوفاء، فقد قلنا إن الدقة والصرامة مطلبان أكثر من ضروريين، حيث بهما تُشد الرحال نحو القمم الشامخة وليس القفز في الهواء ثم السقوط الحر في الحفر، وقد صدق المتنبي يوم قال:«على قدر العزم تأتي العزائم.. وتأتي على قدر الكِرام المكارم».