“النهار” تزور بيت الحراق الذي عثر على جثته بعنابة
في سن الثالثة و الخمسين دفعه الفقر نحو مغامـــــرة الموت ، ترك وراءه زوجة و أربعة أولاد أصغرهم طفلة لم تتجاوز السنتين.
كان حلمه توفير لقمة العيش لهم ، فراح يبحث عن الأمل في ‘‘الحرقة‘‘ عله يجد في الجانب الآخر من البحر مبتغاه .. و لكن حياته انتهت قبل أن تنتهي الرحلة .
إنه المدعو” بوزار الطاهر” البالغ من العمر 53 سنة من مواليد 1955 م ، القاطن ببلدية بومدفع بولاية عين الدفلى ، أب لـ 4 أولاد ( بنتين و ولدين ) بطال ، عثرت الفرقة المشتركة بين حراس الشواطئ و أعوان الحماية المدنية مساء الاثنين الماضي على بعد ثلاثة أميال شمالي رأس الحراسة بعنابة على جثته غريقا ، وقد تم تحديد هويته من خلال الوثائق الموجودة بحوزته .
“النهار” انتقلت إلى المنزل العائلي للغريق ببلدية بومدفع و في مكان غير بعيد عن مركز الأمن قبالة مستشفى البلدية بشارع 20 أوت ، تقيم عائلة الرجل الذي ضاقت به السبل فلم يجد إلا الهجرة السرية أو ” الحرقة” كما يسميها الشباب الجزائري وسيلة ، لعله يحقق في بلاد الغرب ما عجز عن تحقيقه في وطنه ، هذا ما قاله لنا أول من صادفناه أمام المنزل المقصود .
لم تمض دقائق حتى التف حولنا أفراد من العائلة و جيرانهم” و بعض الشباب المتواجد هناك ، و كان الابن الأكبر و الذي لم يتجاوز الثامنة عشر بينهم ، سألناه إن كان يستطيع إخبارنا عما حدث لأبيه ، اعتذر و أحالنا على عمه (ب.عبد القادر) الذي خرج من البيت مرحبا بنا ، و قبل أن نسأله بادرنا قائلا ” المرحوم كان يسعى من أجل الخبزة .. لا عمل .. لا سكن ، بلغت به الدرجة إلى التسول و طلب الأكل من الآخرين ” و يضيف: “أن أخاه كان يقضي ليالي طويلة دون الحصول على وجبة لعشاء أولاده ، و أنه لم يشعر يوما بطعم الاستقرار ، و حين سألناهم إن كانوا قد علموا بما ينوي فعـــله قبل هجرته ، أجـــاب أحدهم قائلا: ” إنها مقامرة .. الله غالب …لا يوجد حل غيرها ” سألنا وهل كان المرحوم يدرك أنه قد يفقد حياته في هذه المقامرة .. أجـــــاب أحدهم :” كان عنده أمــــل في العبور .. و وعد أولاده أنه سيعمل ليبني لهم مسكنا أمام الناس ..” و خاطبنا أحد الجيران قائلا :” هذا الفعل حرام .. هذا انتحار .. يجب توعية الناس ..”
وسط تصريحات الشباب ، دعانا أخ ” الغريق” إلى دخول البيت لنرى الوضعية المزرية التي يعيشها ساكنيه . البيت حسب معاينتنا عبارة عن غرفة مبنية في ظهر بناية يقابلها على بعد حوالي 5 أمتار مرحاض يستند إلى جدار البناية الأخرى ، إلتقينا الزوجة و كل أفراد العائلة في جو من الاضطراب ، حيث بادرتنا إحدى النساء ” تعالوا .. انظروا أين نعيش ” و سبقتنا إلى الخلاء “انظروا المرحاض الذي نستعمله ” و فتحت الباب لترينا الهدم الذي يعتريه و الأجر المصفوف على الأرض ، ثم قادتنا إلى المنزل الذي هو عبارة عن غرفة واحدة مقسمة إلى نصفين مغطاة بـ”الترنيت” في مدخل البيت لاحظنا ثلاجة مفتوحة بها ملابس و أحذية ، سألنا لماذا يضعون الملابس في الثلاجة ، أجابتنا زوجة الغريق أنه لا توجد عندهم خزانة ، كما أنه لا توجد عندهم كهرباء و لم يستطيعوا التحصل عليها لأن بيتهم عبارة عن بناء فوضوي .
سألناها ماذا كان يعمل المرحوم زوجها ، قالت أنه :” لم يعمل منذ 6 سنوات ” ، و عن كيفية معيشتهم ، قالت ” عن أي معيشة تـــسألون ..؟ ” و ألحت علينا في ذكر غبنهم و نقل معانتهم بأمانة و خاطبتنا بتأثر “… أنا و زوجي لسنا جزائريين .. طلبنا سكن فلم يهتم بنا أحد لا رئيس البلدية الأسبق و لا رئيس الدائرة ، طلبنا إعانة 2000دج حق أبنائنا في الدراسة رفضوها ، حتى قفة رمضان لما سجلنا بها لم نتحصل عليها ..فماذا نفعل .. كل الأبواب أغلقوها في وجوهنا ..”.
أما أم الضحية فبدت في حالة من التأثر الشديد ، اقتربنا منها و قبل أن نسألها أشارت إلى طفلة صغيرة لم يتجاوز عمرها السنتين مندمجة في لعبها في زاوية البـــيت و قــالت ” هذي من يعتني بها الآن ..مات من أجلهم ..راح و لم يترك لهم شيئا، و انتابتها نوبة من البكاء .
و نظرا للجو المتوتر لم نستطع طرح العديد من الأسئلة ، إلا أنه عند انصرافنا متمنين للعائلة الصبر الجميل وجدنا في الزقاق المؤدي إلى الشارع مجـــموعة من الشباب بينهم ” عمار” ابن أخ “الغريق” و الذي أجابنا حين ســـــألناه ما الذي دفـــع عمك إلى ” الحرقة ” في هذه الســـن قال : ” الفقر .. كان مغبون ، لم يجد عملا ، و عنده 4 أولاد .. فماذا يفعل ” ثم واصل قائلا :” نحن مظلومين في بلدنا ، لا أحد يهتم بنا تخيل أننا طلبنا سيارة إسعاف لنجلب بها جثة عمي من عنابة رفضوا ذلك .. “
و تدخل الشباب الموجودون كل يــــــدلي بدلوه و همهم المشترك البطـالة و الحاجة و التهميش . و حين سألناهم عن رأيهم في الهجرة غير الشرعية أجابنا أحــــدهم قائلا : ” يا أخي نحن نحب البلد ، و لكن القائمين على البلد لا يحبوننا ، و لا يبالون بنا و نحن مضطرين للمقامرة إذا نجحــنا نجــونا و إذا فشلنا فهو قدرنا …” شاب آخر تدخل قائلا :” السبب الذي يدفع الناس إلى الهجرة لا يخفى على أحد .. و إن كان هناك ضحايا المأساة الوطنية ، فهذا الذي مات نعده من ضحايا المأساة الاجتماعية ..” و شاب ثالث قال :” …. يا أخي حتى الرسول أمر بالهجرة إلى الحبشة لأن بها ملك لا يظلم عنده أحد ..” و كانت تدخلات الشباب كلها تصب في إطار النقمة على أوضاعهم ، حيث تشابهت الآراء و ردود الأفعال .قبل مغادرتنا بلدية بومدفع أخبرنا أحد الشبان المتواجدين أمام مسكن “الغريق ” أن أباه المدعو حاج محمد بن عيشة من مواليد 1958 و الساكن ببلدية بومدفع ما زال بين المفقودين السبعة ، و أنه خرج مع صديقه (بوزار الطاهر ) و أنه عان نفس مشاكله من البطالة ، و كذلك خلف وراءه أربعة أولاد . و لم يكن بوسعنا إلا أن نتمنى له خبرا سار ، و ودعناه بكلمات لا نملك غيرها ” الله يعطينا الصبر ” ليبقى يأس الشباب يدفعهم للموت غرقا في عرض البحار،و تبقى دول أوروبا حلم آلاف الجزائريين على اختلاف مستوياتهم التعليمية والاجتماعية.. و على تباين أعمارهم. وإذا كان أبناء الأغنياء وكبار المسؤولين يتمكنون من دون عناء أو تعب من تحقيق أحلامهم بالاستقرار في كبريات العواصم الأوروبية، فإن أبناء الفقراء والطبقات الدنيا تواجههم جبال من العراقيل التي تقيد تحركاتهم نحو الخارج وتمنعهم من ملامسة أرض “الجنة الموعودة”، الأمر الذي جعل غالبيتهم يتحولون إلى “حراقة” يغامرون بحياتهم في رحلات الموت .
و قد تمت أمس الجمعة على الساعة العاشرة صباحا مراسيم دفن جثة الغريق مباشرة بعد استلامها من طرف مصالح الأمن.