المرأة الشجاعة
أوضحت في كتابي عن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم أن أول من آمن بالإسلام امرأة، وأن أول من استشهد في سبيل الإسلام امرأة أيضا.
تبنت قبائل قريش سياسة التعذيب المنظم ضد المؤمنين، وفرضت عليهم الجوع والعطش. ووقع الأذى الأكبر على الفقراء والأرقاء من المسلمين. أراد وجوه قبيلة بني مخزوم أن يظهروا حماسهم الزائد لحملة التعذيب فاستهدفوا عائلة كاملة اختارت الإسلام عن حرية واقتناع. أخرجوا ياسر، وزوجته سمية، وابنهما عمار، الى رمال الصحراء المحرقة بعد منتصف النهار بقليل، عندما يكون لهيب الشمس في صحراء العرب أقوى منه في أي وقت آخر خلال اليوم. وهناك تداول الطغاة على ضرب المؤمنين لإجبارهم على التخلي عن عقيدتهم والعودة الى عبادة الأصنام.
مر النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم بآل ياسر وهم بين أيدي جلاديهم، فما كان عنده من تأييد لهم إلا قوله المشهور: صبرا آل ياسر.. موعدكم الجنة. إن مشهد قمع المؤمنين يتكرر في فترات كثيرة من التاريخ: كذلك فعل فرعون بالشعب اليهودي من قبل، وكذلك فعل الكثير من الطغاة بالمسيحيين. وها هم المتسلطون المتعصبون من زعماء مكة ينهجون ذات النهج الفاسد في مواجهة الإيمان، وفي مواجهة الإرادة الحرة للإنسان.
وقف أحد المعذبين على رأس المرأة المؤمنة الحرة يخيرها بين مزيد من التعذيب وبين أن ترتد عن الإسلام وتمدح الأصنام، فنظرت اليه بثقة وشموخ، وردت عليه بالرفض. لقد رفضت هذا العرض من قبل، وأكدت موقفها من جديد بلهجة لا تحتمل الشك. ثار الجلاد واستشاط غضبا وهو يرى عجز قوته الباطشة عن إثناء هذه المرأة النبيلة عن محبة الله والإيمان به، فما كان منه إلا أن رفع سلاحه ووجه لها طعنة قاتلة.
وكتب التاريخ آنذاك اسم أول شهيدة من شهداء الإسلام: سمية زوجة ياسر، وأم عمار بن ياسر. وقد خلد التاريخ اسمها رمزا للإيمان والدفاع عن حرية العقيدة، ورمزا للإرتباط الوثيق بين المرأة والشريعة الجديدة التي أنزلها الله على محمد صلى الله عليه وسلم. ارتباط المرأة الحرة في كل مكان وزمان بشريعة الحرية والكرامة الإنسانية.
وغير بعيد من الموقع الذي استشهدت فيه سمية، كان جلاد آخر من جلادي قريش يتفنن في تعذيب مؤمن آخر من أنصار محمد صلى الله عليه وسلم. اسم الجلاد أمية بن وهب، واسم المؤمن بلال بن رباح. كان بلال رجلا أسود. كان من الرجال والنساء السود الذين لبى الإسلام أشواقهم الى المساواة والحرية. لا فرق في الإسلام بين أبيض ولا أسود إلا بالتقوى. إلا بمحبة الله والعمل الصالح: “يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا. إن أكرمكم عند الله أتقاكم. إن الله عليم خبير”.
وكرامة الإنسان عطاء الهي ثابت بقطع النظر عن لونه وعرقه ودينه: “ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا”.
فهم بلال بن رباح رسالة الإسلام الواضحة التي لا تعقيد فيها. إن تكريم الله لبني آدم يشمله ويشمل كل إنسان على وجه الأرض. وكل الذين ينتقصون من حقوق الإنسان بسبب اللون عنصريون ضالون معادون لشريعة الله. لماذا إذن يستمر مؤمنا بديانة قريش التي لا يقبلها العقل السليم والتي تجيز اضطهاده واستعباده؟ (البقية غدا إن شاء الله تعالى)