ملك عادل
منذ أن قرأ جعفر بدايات سورة مريم، تجلت الحقيقة للملك المسيحي العادل. وعندما يطمئن السامع ذو القلب السليم الى أنه يسمع كلام الله،
فإن رد فعله غالبا يميل الى الخشوع والتفكر. أما الملك فلم يحبس دمعه. بكى حتى بلل الدمع لحيته. وبكى الأساقفة من حوله. ثم أصدر الملك حكمه العادل: إن هذا، (يعني القرآن) والذي جاء به عيسى, ليخرج من مشكاة واحدة. انطلقا (الحديث هنا موجه لعمرو بن العاص وصاحبه، ممثلي قريش) فلا والله، لا أسلمهم اليكما”.
إن عظمة هذا الملك النصراني العادل لا تتوقف عند إنصافه للمسلمين، وعند خشوعه لكلمات الله عندما تليت عليه من القرآن الكريم. ففي ما يشبه محكمة الإستئناف، عاد عمرو بن العاص وصاحبه الى النجاشي باتهام جديد، مفاده أن المسلمين يقولون في عيسى بن مريم قولا عظيما، يقصد قولهم أن عيسى عليه السلام عبد لله. وعاد المسلمون مجددا الى مجلس الملك يحاصرهم اتهام يتصل بعقيدة الملك القاضي مباشرة. أدلى جعفر بن أبي طالب بالجواب الصحيح عند المسلمين دون زيادة أو نقصان: هو عبد الله ورسوله وروحه، وكلمته ألقاها الى مريم العذراء البتول.
ولعله قرأ للنجاشي مجددا من سورة مريم التي قرأها بالأمس وفيها:
“واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا. فاتخذت من دونهم حجابا. فأرسلنا اليها روحنا، فتمثل لها بشرا سويا. قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا. قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا. قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا؟ قال كذلك قال ربك هو علي هين. ولنجعله آية للناس. وكان أمرا مقضيا. فحملته فانتبذت به مكانا قصيا. فأجاءها المخاض الى جذع النخلة. قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا. فناداها من تحتها ألا تحزني، قد جعل ربك تحتك سريا. وهزي اليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا. فكلي واشربي وقري عينا. فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا. فأتت به قومها تحمله. قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا. يا أخت هارون: ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا. فأشارت اليه. قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا. قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا. وجعلني مباركا أينما كنت. وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا. وبرا بوالدتي، ولم يجعلني جبارا شقيا. والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا. ذلك عيسى بن مريم قول الحق الذي فيه يمترون. ما كان لله أن يتخذ من ولد. سبحانه. إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون”.
بالنسبة للذين يقرأون هذه الآيات الكريمة باللغة العربية، فإن من المستحيل على الأغلبية الساحقة منهم ألا يأسرهم جمالها وإيقاعها وسجعها، بالإضافة طبعا الى وضوح المضمون والقدرة المعجزة على رواية قصة طويلة في فقرة صغيرة طولها 209 من الكلمات.
وبالنسبة للذين يقرأونها مترجمة الى الانجليزية والفرنسية، والى أي لغة أخرى قد يطبع بها هذا الكتاب، فإن أغلب الظن أيضا أنهم سيصلون الى ما وصل اليه ملك الحبشة عندما قرأت عليه قبل حوالي أربعة عشر قرنا من الزمان.