إعــــلانات

ليست مشكلتنا في مسكن وإسكان.. بل في النظر والإمعان

ليست مشكلتنا في مسكن وإسكان.. بل في النظر والإمعان

صار المواطن الجزائري قاب قوسين أو أدنى، عبارة عن مسافر مشحون بالشجن المسترسل الحي النابض، يترصد طوال السنة أحواله المعيشية، مُوجها عينيه صوب وجه البقرة التي ينتظر منها أن تغدق عليه بشيء من مصادر زبدها المتعدد الأشكال والألوان.

وهو في كل مناسبة مثلما ينتظر إجراءات العفو عن المساجين، ينتظر كذلك هبة توزيع المساكن وجوائز التكريم للمتفوقين والمتفوقات، وما إن ينقضي هذا النوع من المحطات، إلا ووجدته يقفز منتظرا مناسبة أخرى لعل وعسى ينال منها قطعة من الإغداقات التي لا ولن تتوقف، بسبب أنه ألفها وتربى بين جنباتها.

من هنا، فقد ولّد لدينا نموذج للفرد الاتكالي الطيّع العاجز عن نفض الغبار عن نفسه،  المنتظر لمساعدة الأم الحلوب، وتجيء قضية المسكن من بين أهم هواجسه التي فتح أمامها عينيه منذ الصبى، حتى صارت خياره الأوحد بين حياة أو موت، بيد أن دولا وأقاليم أخرى مرت بنفس المراحل، لكنها استطاعت أن تقفز وتتخطى هذا النوع من المشاكل إلا الجزائر الحبيبة، لا لشيء إلا لأنها مُنيت بمهزلة أوجدها «السيستام» وعلّقها كفزاعة للشعور بالإنسانية وشرف الوجود، بل جعل منها أيقونة حيّة حتى يرث الله الأرض ومن عليها، وعصا للتأديب القسري، لكنها في الأصل غير ذلك.

ونقصد معضلة المسكن، فقد كان بمكان أن تصبح كشهادة الميلاد المستخرجة من دون عناء ومبيت على الطوى، ظلت ولازالت هاجسا يؤرق البال والجسد، لأن مشكل المليون مسكن المعلن عنها لن يحلّ المأساة من جذورها، بل يخفف من حدّتها ليس إلا، والأربعة ملايين أو الخمسة ملايين وهلم جرا كذلك هي أعداد لن تحل المشكلة نهائيا وتجعلها في خبر كان، فنحن لسنا أمام أعداد وأرقام بقدر ما نحن أمام أخطبوط شرس يتحكم بأذرعه العملاقة في مساحات شاسعة من ثقافة التنمية ولا يرغب لها أبدا في أن تتحرر وتنفض الغبار عن نفسها، إلى غاية أن أصبح الحديث عن السكن في الجزائر حالة نفسية مرضية و«فوبيا» مستدامة.

تأتي على الأخضر واليابس من كل تفكيرنا، بحجة أن الجزائر بلد فقير تنظيميا وتطبيقيا، لا يفتقر إلى الإمكانات التي تمكنه من الخروج من عنق الزجاجة، ولا للأزمنة المحددة لذلك، بل تفتقد إلى من يستأصل هذا الداء الخبيث من تفكير الجميع، بدءا من الأعلى وصولا إلى القواعد، والدليل أن هذا الموضوع بات ولا يزال محل اهتمام الكل، هو أنه دوما يُزكى في مناسبات رسمية كوسام للشعور بالفخر، وكأن للمواطن بمجرد حيازته على مسكن ـ

وهذا حق اجتماعي وتاريخي ـ يُسجل كمواطن حاز على شرعية المواطنة والانتماء الهُوياتي، أما قبلها فكان مجرد تائه وضال لا تستقيم له الأمور، ولا تهدأ حتى يستقل ويتحرر من همجية الجماعات والعيش المشترك، هاربا من سطوة القبيلة والضيق النفسي والجسدي، ليس باسم فلسفات التحرر والانعتاق من بين العصبيات القبلية،  ولكن باسم الشعور بالذات وثقة اكتساب الفعالية الاجتماعية التي عانت منه ومعه طيلة حقب من الصراع الداخلي والخارجي.

سجل إذا بأن هذا المشكل الجذري من بنات المقاصد التي تحاك ويُرتب لها من أجل تخضيع هذا البلد الأبي وجعله مترجيا منبطحا متضرعا بمنكبيه لكل نواصب ومنابر الأقوياء الذين لا يزالون يراقبون حتى حركات تنفسنا ونقصد الأطراف الخارجية، فربما سيجدون بداخلها شيئا من تقدمنا وقفزنا للشد على إحدى قاطرات التقدم والاندماج الحضري.

وعليه وجب رصدها والحيلولة دونها ومن دون مواصفات إنسان كامل الحقوق والواجبات، لأن هذا البلد العظيم لا يفتقد للإمكانات والقدرات بقدر ما يفتقد لأدمغة ترسم الخطط واستراتيجيات النجاح، فما حيلة الجميع إن كانت هذه العقول نفسها مغلوبة على أمرها وتخضع لقوى أبلغ منها وأقوى، أخيرا نقول إن دولة مثل الجزائر ليست لديها البتة مشاكل مسكن وإسكان.. بل مشاكل نظر وإمعان.

رابط دائم : https://nhar.tv/OBkGq