لن أحجّ.. فضميري إن يقتلني فهو يحييني
الرجل الذي رفض أن يذهب إلى بيت الله
أنا رجل في الستين من عمري، بلغت من مباهج الدنيا عتيا، زرت مدنا وعرّجت على أخرى، جالست ولّاة وأعيانا كبارا وتعرّفت على أغلب رجال المال والأعمال، حاولت مرارا أن أنسى أيام كنت أرقع حذائي البلاستيكي بخيط من حديد «سلك»، لكن للأسف، إلا تلك الحالات هي من أبت أن تـُمحى من جلساتي، بل رُسمت كالندبة على الجلد، وقلت في قرارة نفسي إن الفقر ليس عيبا، بل العيب في من يتناساه ويدّعي بأنه ولد فوق مهد من القطن والحرير.
بعد سنوات الشباب، عشت فيها كل أنواع النكد والشقاء، فتحت مؤسسة لبيع مواد البناء، ثم سنة بعد أخرى، توسع نشاطي وصرت قاب قوسين أو أدني لأصبح رجل أعمال كبير بأتم معنى الكلمة.
ومع الأيام، لم يعد يفصل بيني وبين «بارون» عملاق إلا المظهر، غير عالم أو مدرك بحجم الأموال التي تصدقت بها ولا حجم المساعدات الإنسانية والمعنوية التي أنقذت بها جيرانا وأحبة من أهل القرية، لهذا وذاك، ظلّ الجميع يحبني ويحترمني، بل يقبّلون رأسي على طريقة ملوك المغرب.
وهذا ما كنت أمقته وأتحاشاه، لأنني تربيت فقيرا وأحب التواضع والبساطة. درّست أبنائي في أكبر المعاهد، وأتيت لهم بأساتذة الليل بطلب منهم، لأنني لم أكن أدرك قيمة العلم والتعلم منذ صغري، وأن المعرفة تؤمّن حالا أو بيتا، وأخيرا جاءت لحظة الحسم، وهي التي فكرت فيها في خامس الأركان، تيمنا بأمثالي من تجار كبار، فأودعت ملفي.
وبعد عدة مرات، تم استدعائي من طرف لجنة الحج في البلدية وإخباري بأن القرعة أهّلتني للحج، لكن بعد صراع داخلي مع نفسي، قررت ألّا أذهب إلى البقاع المقدسة متراجعا عن الفكرة تماما، شعورا مني بالذنب متعاركا مع ذاتي، إلى درجة أنني لم أنم ليلة كاملة، نتيجة الحسابات الكثيرة والقلاقل المتضاربة.
صباحا وفي الوقت الذي كانت زغاريد النسوة لكثير من الحجاج ـ جيران القرية ـ تمخر الشوارع وأبواق السيارات مهلهلة صوب مطار هواري بومدين قصد الإقلاع نحو بيت الله الحرام، وذلك قبل شهر رمضان المعظم، سألتني إحدى بناتي لماذا لا تذهب يا أبي؟، فأجبتها بل أجبتهم: لن أذهب.. إن مالي مشبوه، نعم مشبوه مئة من المئة، وأنا الذي أعرف نفسي من دون غيري.
إلى هنا خُتمت تفاصيل هذه الحادثة الواقعية، والتي كل ما أعجبني فيها، صراحة المعني أمام أبنائه، وجرأته التي جاهر بها في لحظة ضعف كبيرة، كانت نتاجا وزبدة صراع ومخاض مريرين مع الذات، وذلك حين استفاق ضميره بألّا يخادع الناس ونفسه وربه، بعد أن أدى تقريبا كل الأركان على أكمل وجه.
هذا الرجل الثري وكثيرون من أمثاله، يمتلئ بهم طول وعرض الوطن، فهل يا ترى أطاح بكل ما كسبه وعمله يوم صارح وأباح بهذا إلى فلذات أكباده؟، وهل هذه المصارحة ستنعكس بالسلب على هذه الأسرة «البورجوازية»؟.
لقد أعجبتني وألهمتني هذه المجازفة يوم سمعتها من ابنة قالت لي: «إن أبي بدا متهورا وضعيفا أمامنا، فكيف سنتواصل معه، بل كيف نتواصل مع أنفسنا؟»، لقد رفض أن يحجّ على الرغم من أنها فرصة العمر كما يقال ولن تتكرر، بل متى سيحالفنا الحظ يا ترى مرة أخرى كي ترشحه القرعة؟، إن أبي عاش صراعا مع نفسه لأنه قال إن الحج لن يغفر لي، فأنا بعد عودتي سأعود إلى نشاطي وعلاقاتي الاعتيادية داخل المقاولة.