في واحدة من مفارقات جزائر المعجزات : الخزينة بـ 100 مليار والشباب ينتحر على أمواج البحار
المألوف أن الوفرة المالية لأي بلد يصاحبها بالضرورة تحسن بالضرورة في القدرة المعيشية للمواطنين، لكن ما هو حاصل عندنا في الجزائر يبطل هذه النظرية
ولو إلى حين، بالنظر للواقع المر الذي يعيشه السواد الأعظم من الجزائريين الذين فقد الكثير منهم الأمل في الحياة وفضل الانتحار بطرق مختلفة؛ فمنهم من رمى بنفسه من الجسور وآخرون فضلوا الموت في صمت، بينما الكثير من الشباب اختار البحث عن سراب الجنة الأوروبية بالمخاطرة وركوب قوارب الموت.
ولم تشهد الجزائر سيولة مالية في خزينتها العمومية كالتالي تعرفها في الوقت الراهن، بالنظر للارتفاع القياسي والمذهل لسعر برميل البترول الذي تخطى حاجز الـ 120 دولار للبرميل، لكن يبدو أن الفرد الجزائري لم يعد يثق في أي شيء؛ لأن المستقبل أضحى قاتما أمامه …
الحديث عن خزينة عمومية مكدسة بالملايير لم يعد يعني شيئا بالنسبة للشباب الذي اقتنع ضمنيا من عدم جدوى التفكير في الجمهورية الفاضلة التي صورها أفلاطون من قبل، نظرا لكون الواقع المعيش بدد كل تلك الأحلام؛ فإذا كانت البطالة تعتبر هاجسا ينخر أجسادهم، فإن الوضع تفاقم أكثر من ذلك، عندما فقد معظمهم الرغبة في العيش، مهما كانت الظروف بمحسناتها البديعية؛ لأن ذلك في قرارة نفوسهم ما هي إلا مساحيق مجملة لا تسمن ولا تغني من جوع.
حدثنا الطالب (س. مجيد) 21 سنة (سنة ثالثة حقوق)، قائلا: “ما أسمعه أننا نملك خزينة عمومية مكدسة الأموال، يجعلني استثير غضبا أكثر فأكثر عن هذا الوضع المزري الذي أعيشه؛ لأننا لو كنا بلدا فقيرا فعزاؤنا سيكون واضحا، والعذر موجودا، لكن أن تكون الخزينة مكدسة ولا نسمع منها سوى الأرقام، فمعناه أن الأمر لا يعنينا مادام الملموس يبقى في الخيال، فانظر نحن الطلبة نحصل على منحة 2700 دج خلال ثلاثة آشهر، وهو المبلغ الذي لا يكفي حتى لشحن شريحة هاتف نقال، فكيف لك أن تصرف هذا المبلغ على احتياجاتك اليومية. أعتبر هذه المنحة منحة اليأس الذي أصبح يكبر وينمو معنا في كل وقت، لهذا يجب أن لا تطالبتي بالتفكير في حياة أفضل؛ لأن الغد يبدأ من اليوم، والمثل الشعبي يقول “العام يبان من خريفه”.
“أحييني اليوم واقتلني غدوة”
شاب آخر بطال اسمه (ب. محمد) 29 سنة، قال بسخرية: “هل صحيح ما يقال أننا نملك الملايين؟! يا أخي أنا لا آعتقد ذلك؛ لأنني في حياتي لم أر يوما جميلا، فكيف لي أن أتخيل ذلك، فما يحدث لي مثل ذلك الذي تطالبه بوصف الجنة، فما لا عين رأت ولا أذن سمعت.. أنا مثل ذلك لا أرى ولا أسمع ما تقولون. صحيح الكلام أني حي أرزق، ولست بعائش؛ لأنه لا فرق بيني وبين أي دابة أخرى، ولهذا كفانا كلمات رنانة، وحلما بحياة أفضل، فالمثل يقول: “أحييني اليوم واقتلني غدوة”، لهذا أفضل أن أكون خارج مجال التغطية وأفضل أن أشغل بالي عما تقولون، وحتى في الإحصاء أعتقد أن الوالدة لم تدرجني في عدد أفراد البيت؛ لأنني زائد ناقص، فكيف أنتظر من الدولة أن تصرف أموالها من أجل أن أعيش حياة أفضل”…؟! حدثنا بسخرية وانسحب بغضب شديد!!
وفي زحمة هذه الدلالات عن الحاضر الذي يعيشه معظم الشباب، تكلمنا مع (ن. بشير) 24 سنة يعمل دهانا، عندما قال: “لا تخذرني بكلام معسول كهذا، فمهما كان الحال أنا لا أنتظر أي شىء، فعملي هذا أقوم به من أجل جني شيء من المال لأجده إن سنحت الظروف للذهاب إلى الضفة الأخرى، فقد صدق كل من قال “ياكلني الحوت… وما ياكلنيش الدود”. صحيح أننا صبرنا، لكن للصبر حدودة، فانظر أنا أعمل في ظروف قاهرة، لا تأمين، لا راتب كاف، فبالله عليك كيف لي أن أفكر في مشاريع حياتية، فأنا أعيل عائلة من ثمانية أفراد بعد وفاة الوالد، وكل هذا الضغط سيجعلني أستسلم لأي حل يأخذني بعيدا عن هذا البلد، ولا أكذب عليك، فالحرڤة تلعب كل يوم في رأسي، ولن أفكر في غيرها، فما الفائدة من بلد يملك خزينة عمومية مكدسة، وهناك من الشعب من يقتات من المزابل، هذا شأنه شأن أي جزار يبيع اللحم ويعيش أولاده باللفت…!!
الأمول التي قتلت الآمال
وغير بعيد عن السوق الجوارية “بومعطي” بالحراش، سألنا مجموعة أخرى من الشباب، حيث يعتبر هؤلاء من الباعة القدماء في هذه السوق الفوضوية التي تستقطب يوميا الآلاف من البشر الذين يبحثون عن ضالتهم وسط المواد الاستهلاكية زهيدة الأثمان، وحتى تلك القريبة انتهاء مدة الصلاحية، طالما أنها ستفي بالغرض لأسبوع أو أكثر، وحتى الملابس مختلفة الماركات المعروضة هنا بأسعار تكاد تكون رمزية لا أكثر، وعلى رأسها المنتجات الصينية التي لم يجد عنها الجزائريون - حتى الآن – بديلا. “عمر” شاب في العقد الثالث، متزوج وأب لطفلتين، لم يستطع تمالك نفسه من الضحك ونحن نسأله عن المائة مليار دولار، ولما فرغ من نوبة الضحك التي انتابته قال: “غريب أمر الجزائريين، انظروا من حولكم وستعرفون حالة البلاد والعباد، فهذا الرقم الخيالي من الأموال سمعنا عنه ولكننا لم نلمسه ولم يتجسد لا في مشاريع سكنية ولا صناعية ولا أي شيء، الكل جياع والكل يجري وراء لقمة العيش. أما الاستقرار، فهو خارج مجال اهتمام عامة الشعب”. حاولنا إعادة طرح السؤال عليه بطريقة أخرى، فقال: “تصوروا لو تفكر الدولة جيدا وتستثمر هذه الأموال في التشييد والبناء.. صدقوني لن تمر سنتان إلا ونكون قضينا تماما على مشكل السكن والشغل الذي أرهق الكثيرين”.. و هنا تدخل (محمد): “سمعنا كثيرا عن المائة مليار دولار التي يتنعم بها الأجانب ويستثمرونها في مشاريعهم، ولكن لم نحس بطعمها مطلقا. صدقوني لو كان هذا المبلغ بيدي لكنت شيدت مصانع عدة واستصلحت الصحراء الجزائرية وجعلتها خضراء، فما الذي ينقصنا حتى لا نكون كالإماراتيين والسعوديين، فالأموال والأراضي والحمد لله متوفرة، وما ينقصنا هو التخطيط وحسن استثمار الفرص”.
الصيف الحرڤة والبحث عن الجنة المفقودة
“زهير. ب” شاب في الـ 27 من عمره، من أحد الأحياء الشعبية في العاصمة، تحدث إلينا بمرارة وكله أسف على الروتين القاتل الذي يعيشه يوميا، والذي دفع به إلى التفكير في المغامرة والتنقل إلى ما وراء البحر، رغم أنه كان قبل مدة من أشد المعارضين لذلك: “خلاص عييت… ماكاين والو، راني غير نضيع في حياتي هنا.. لو كان نزيد نقعد رايح نهبل ولا نولي نسرق”. كلمات نطق بها بصوت حزين يعكس درجة المرارة التي كانت تختلج في نفسه.. وأضاف ذات المتحدث “لو كانت الجزائر دولة فقيرة لهان الأمر.. لكنها تملك من الإمكانيات المادية والبشرية ما يجعلها توفر كل متطلبات الحياة لمواطنيها.. لكن للأسف مع مرور الأيام الأمور تزداد صعوبة بسبب الغلاء المتزايد للمعيشة بسباب التهاب الأسعار”… ولم يكد زهير ينهي كلامه حتى تدخل زميل له كان أكثر انفعالا منه، فقال بصوت مرتفع: “لم أعد أخشى أي شيء، سأحاول أن اشتري تأشيرة ولو بـ 30 مليون سنتيم، وإذا مافشلت في ذلك فإن الصيف على الأبواب وسأجد ألف طريقة للحرڤة والهروب من هنا؛ لأنه لا يمكنني البقاء على الهامش ولعب دور المتفرج في هذه الدنيا”.
النساء أحلام لا تنتهي
وإن كان هذا حال الشباب، فالفتيات لهن أحلامهمن بدورهن، حيث تمنت سهام (32 سنة) لو كان المبلغ بيدها لكانت اشترت جزيرة على ضفاف المحيط الأطلسي ولكانت شيدت هناك قصرا فاخرا وانتظرت طوابير الخطاب التي لا تنتهي وتقضي بذلك على شبح العنوسة الذي يطاردها.
أما “أحلام” (27 سنة)، فقالت أن مبلغا كهذا من شأنه أن يرفعها فوق السحاب ويجعلها سيدة أعمال من الطراز الأول، تملك أسهما في البورصة ومؤسسات صناعية توظف فيها أبناء بلدها وتحميهم من مغبة الحرڤة والموت على ضفاف البحر الأبيض المتوسط، كما قالت أنها تتمنى وبشدة أن تنشئ العديد من المدارس لامتصاص الأعداد الكبيرة للأميين الذين لا يزالون محرومين من نعمة التعليم، فيما فكرت “خديجة” في استثمار المبلغ في شراء كل ما تحلم به من ثياب وحلي ومساكن فخمة عبر نقاط مختلفة من العالم، إضافة إلى إقامة معارض دولية لما تصنعه يداها بما أنها خياطة.
غير أن ما ميز أجوبة جميع من صادفناهم، هو إجابة “خليدة” (28 سنة)، والتي قالت: “لو كانت لي فرصة وأحكمت قبضتي على مبلغ كهذا لكنت وفرت مناصب شغل للشباب العاطل، ولكنت زوجتهم جميعا، حيث أشترط عليهم الزواج مقابل العمل، وبالتالي أنهي مأساة العديد من الشباب الجزائري الذي ضاعت آماله وأحلامه بسبب قلة الحيلة وتعنت مسؤولينا الذين أخذهم زيف الحياة الرغيدة و”يتقلشوا”على حساب الشعب وكرامته التي فقدها، فما الذي تبقى لنا والعالم كله يعلم أن بعض العائلات التي لا حول لها ولا قوة تقتات من المزابل، والشباب إما “يحرڤ” إلى الجهة الأخرى أو يغرق في الرذيلة ويستحل العلاقات الجنسية خارج الروابط الشرعية”.