عائلات ورثت السجن أبا عن جد: ذنبهم الوحيد أنهم من الطفولة المسعفة
“لم ندرك ما فعلته بنا الحياة سوى أننا وجدنا أنفسنا رفقة أطفال داخل مكان معزول عن الخارج تنعدم فيه ابسط ضروريات الحياة
الشيء الذي كنا في بعض الأحيان نتساءل عنه هو لماذا هم يدرسون ونحن لا ؟ لماذا هم يتعلمون داخل ورشات و نحن لا ؟ لماذا هم يسمح لهم بمغادرة المكان في العطل و نحن لا ؟ لماذا المربون يخافون من احتكاكنا بهؤلاء” هذه العبارات لعماد الدين الذي فتح عيناه بمركز إعادة التربية لبئر خادم ليس لأنه ارتكب جريمة بل لأن والده من الطفولة المسعفة والذي زج به في ذلك المكان دون أن يقترف أي ذنب، اقتربت النهار من هذه الشريحة لتنقل معاناتها.
يبلغ عماد الدين من العمر 18 سنة أول مولود بمركز إعادة التربية ببئر خادم ليس لأنه ارتكب جريمة بل لأن والده كان يعيش بهذا المكان أو السجن منذ24 سنة ولم يدخل المركز لكونه مجرما بل دخله لأنه طفل مسعف تنقل إليه بعد أن أغلق مركز الطفولة المسعفة ببوبيو ساحة أول ماي الذي كان يضم قرابة 250 طفل مسعف و ذلك سنة 1983 بقرار وزاري صدر عن كتابة الدولة للشؤون الاجتماعية في عهد الوزيرة زهور لونيسي، و لذلك تم توزيعهم على مراكز إسعاف أخرى، حيث اخذ بعضهم إلى مركز قسنطينة “وزقالة”، وآخرين إلى مركز مسرغين بوهران، و منهم من وضع بمركز في مدينة “التنس” ولاية الشلف، و البعض الآخر بـ”بن شيكاو”بالمدية، و كذلك نقل البعض الآخر الى دار الشباب بالقبة، أما الفتيات فقد زج بهن بمستوصف المحروقين التابع لمستشفى مايو بباب الوادي ، أما البقية المتكونة من 17 مراهق فقد وجهوا إلى مركز لإعادة التربية ببئر خادم مؤقتا، و لكل فئة قصة في هذه المأساة لتمر السنوات و تمر معها أعمارهم و طفل الأمس يكبر رفقة المساجين و يصبح رجلا يتزوج و ينجب أطفالا يرثون هم كذلك صفة “الأحداث ” المسجلة في بطاقات تعريفهم .
شباب يخشون اخراج بطاقات تعريفهم
“عماد” من بين هؤلاء الأطفال الذين يخشون من إخراج بطاقتهم و التعريف عن هويتهم اخبرنا انه غادر مقاعد الدراسة لأنه لا يرى أمل في الحياة التي ظلمته وشوهت سمعته و ذنبه الوحيد انه ” فتح عيناه داخل مركز عقابي “.
و لمعرفة تفاصيل القضية أكثر اتصلنا ب”حكيم بدور” والد عماد الدين الذي بدأ حديثه عن مركز الطفولة المسعفة قبل الغلق حيث قال أنهم كانوا يعيشون في عهد الراحل هواري بومدين حياة وصفها بالحلم الجميل ” كانت حقوقنا محفوظة و تصلنا قبل غيرنا … كنا نتعلم و نعيش حياة كريمة ” كان الحي مهيأ يتوفر على جميع المرافق الضرورية كالأقسام التعليمية و الورشات و هذا بهدف إدماجنا وسط المجتمع و أضاف في سياق كلامه بأن الرئيس الراحل بومدين كان يأتي شخصيا كل مساء ليقضي برفقتهم السهرة كما كانت تنضم لهم رحلات عديدة إلى أرجاء مختلفة من الوطن و خارجه كتونس و فرنسا و ايطاليا و كانوا يطلقون عليهم اسم “أبناء الدولة ” ..”الآن نحن نلقب بالطفولة المسعفة أي إسعاف هذا؟ ” مسترسلا في حديثه و بمرارة ظلمتنا الحياة مرتين، مرة حينما وجدنا فيها دون إرادتنا لنكون في نظر المجتمع “نكرة” و ظلمتنا ثانية حينما أغلق المركز و زج بنا في مركز عقابي لان السلطات المعنية لم تجد لنا مكان نقيم به سوى مركز إعادة التربية ببئر خادم كان عددنا 17 مراهق تتراوح أعمارنا بين 14 سنة و20 سنة. حينها لم يكونوا يعوا شيئا لم يعرفوا خطورة المكان الذي وضعوا فيه الا بعد سنوات و هذا حين تقربهم من الإدارة لاستخراج شهادة إقامة أين كانت الصدمة أو الجريمة الإنسانية كما سماها محدثنا حكيم حيث كتب فيها أنهم تم وضعهم في المركز كأحداث أي أنهم ارتكبوا جريمة.
في زنزانة العجزة والمجانين
وأضاف حكيم قائلا بأنه لم تعط لهم حتى حقوق السجناء إذ أنه لم يسمح لهم بالتعليم و لا الانخراط في أي ورشة كما كان يفعل مع سجناء المركز بل مساحة حريتهم وحقوقهم لا تتعدى النوم و الأكل فقط كانوا يعاملونهم بطريقة لا إنسانية و يرون فيهم صورة الجريمة أو النكرة -على حد تعبيره- و كما قال “كانوا يمنعون السجناء من الاحتكاك بنا و في بعض الأحيان كانوا يحرضونهم علينا و هذا للاقتصاص منا كوننا وجدنا هناك رغما عنا و عنهم “
و أضاف محدثنا “كنا نعامل بطريقة خاصة إذ لا يسمح لنا بمغادرة المركز كالبقية حيث أن معظم السجناء كان يحق لهم مغادرة المركز في العطل الأسبوعية و المناسبات الوطنية و الدينية أما نحن فلا “. واخبرنا “حكيم” انه بعد 11 سنة من الإقامة مع المساجين الذين تم نقلهم إلى مركز أخر سنة 1994 بقيت هذه الشريحة في نفس المركز الذي حول إلى مركز للإسعاف الاجتماعي و هذا إلى غاية 2001و عاشوا قرابة7 سنوات أخرى مع المشردين و العجزة و المجانين كل يوم يأتي عنهم يرون فيه أوجه جديدة منها السيئ و منها الاسوء و بعد غلق المركز الاسعافي الذي كان في السابق مركز إعادة التربية بقيت نفس الشريحة المنسية تعيش المصير المجهول .
اليوم صار الأطفال رجالا وانشؤوا عائلات داخل المركز و هم يعيشون حياة فوضوية -على حد تعبير حكيم - مثلهم مثل سكان الأحياء القصديرية لا يملكون وثيقة تثبت وضعيتهم في السكن سوى أنهم مقيمون بمركز إعادة التربية كأحداث و أطفال في خطر معنوي.
لكن ما آلم حكيم كثيرا هو عائلته التي أنشأها داخل المركز العقابي حيث انجب ثلاثة أولاد أكبرهم عماد الدين كما سبق ذكره 16سنة و الثاني 14سنة و الثالث قرابة عامين لا يزالون إلى يومنا هذا يستخرجون شهادة الإقامة على أساس أنهم أحداث ولا تزال تلك اللعنة تلاحقه و عائلته إلى يومنا هذا.
ناصر و قصته مع اللصوص والمجرمين
المستمع لناصر وهو من بين 17 طفل مسعف و هو يسرد يومياته مع اللصوص و المجرمين يكشف أن القانون اغتال براءة أولئك الأطفال بعدما وضعهم داخل سجن دون أن يقترفوا أي ذنب، حيث قال ” لم ندرك ما فعلته بنا الحياة سوى أننا وجدنا أنفسنا رفقة أطفال داخل مكان معزول عن العالم الخارجي تنعدم فيه ابسط ضروريات الحياة الشيء الذي كنا في بعض الأحيان نتساءل عنه هو لماذا هم يدرسون ونحن لا ؟ لماذا هم يتعلمون داخل ورشات و نحن لا ؟ لماذا هم يسمح لهم بمغادرة المكان في العطل و نحن لا ؟ لماذا المربون يخافون من احتكاكنا بهؤلاء ؟ و لم نجد أي جواب عن أسئلتنا إلا بعد أن كبرنا و عرفنا من نكون و أين نحن.بعدها اجبنا عن الأسئلة و قلنا نحن جزء من المجتمع ليس لنا ذنب في وجودنا خرجنا للحياة كغيرنا من البشر و بإمكاننا أن نكون أناسا صالحين كغيرنا نبني و نعمر هذا العالم و ختم ناصر حديثه بكلمة “ما ذنبنا نحن ” . تابع المدعو (ن.ب ) الحديث و هو احد أبطال الفلم الدرامي الذي يجسد الجريمة النكراء التي ارتكبت في حق البراءة و الطفولة و قال بعدما كنا في مركز الطفولة المسعفة ب”بوبيو” نعيش حياة كريمة نتعلم في مدارس و مراكز التكوين المهني وجدنا أنفسنا مع السجناء رغم هذا لم تعط لنا حتى حقوق السجين، بحيث كانوا يخرجوننا في الصباح من العنابر إلى ساحة السجن نبقى هناك إلى المساء دون أن نقوم بأي شيء على خلاف غيرنا من الموجودين الذين يذهبون إلى الدراسة و يلتحقون بالورشات الموجودة بداخل السجن، مشيرا إلى أن اللعب مع السجناء كان محرما عليهم لان المربين هناك كانوا ينظرون إليهم كداء يؤذيهم إذا اقتربوا منه و في السجن، و يقول ” تعلمنا تعاطي المخدرات و شرب الخمر و نحن صغار السن و هذا لأننا مع المساجين الخارجين على القانون الذين قامت العدالة بحجزهم لحماية المواطنين منهم لكن نحن لم يحمينا احد بل زج بنا وسط ذلك العالم الخطير لولا تداركنا للوضع لكنا سلكنا طريقا خاطئا و تحطمت حياتنا أكثر ما هي عليه .
أطفال مركز مسرغين بوهران تعيش نفس المعانات
الفئة التي وضعت في مركز “مسرغين” بوهران لم تتأقلم أغلبيتهم مع حياتهم الجديدة بعيدا عن العالم الذي فتحوا عيونهم عليه هناك ببوبيو بالعاصمة أين غادر الكثير منهم هذه المراكز عائدين إلى مراكز بالعاصمة و منهم من قصد دور العجزة كما فضل آخرون الشارع الذي اتخذوه مأوى لهم، أما مركز القبة أو كما وصفه لنا “حكيم بدور” المقبرة الجماعية تم غلقه بسبب ما كتبت عنه الصحف و الجرائد.
فيما لا يزال مركز باب الوادي الذي تم غلقه أيضا راسخا في أذهان الكثيرين و الذي كان يحتضن فئة الفتيات اللواتي تعرض فيه إلى الكثير من الاعتداءات الخارجية و كان قبلة للمنحرفين بالإضافة إلى ما كان يحصل بداخله. للإشارة فان المركز لم يكن يخضع لقوانين المراكز الأخرى التي تتكفل بتلك الفئة و هذا لأنه بكل بساطة مجرد مرقد ويروى انه ما من ليلة تمر على ذلك المكان إلا و كان للشرطة دورا لها هناك و هذا إما لحل النزاع بين النزيلات أو اكتشاف أمر مشبوه فالكثير منهن كن ضحية ذلك المرقد و تم غلقه بعد تحصلهن على مساكن لكن بعد فوات الأوان للكثير منهن.
سطيف معاقون مسعفون
نورة واحدة من الأطفال المسعفين الذين تم أخذهم إلى مركز سطيف فلم تتقبله بعدها حولت إلى مركز باب الوادي و أثناء رحلتها المرهقة تعرضت إلى صدمة عصبية و أصبحت حينها مريضة عقليا و حاولت الانتحار مرتين ثم غادرة المكان ولم يعرف عنها شيء إلى يومنا هذا. قصة سعاد ليست ببعيدة على ما حدث لنورة غير أن سعاد معوقة ذهنيا و بعد غلق مركز بوبيو تم آخذها إلى احد المراكز والتي غادرته باتجاه شوارع العاصمة اين عاشت سنوات مشردة في الشوارع و هناك تعرضت للاغتصاب كونها لا تعي شيء فنقلت حينها إلى مركز إعادة التربية ببئر خادم و الذي حول في وقت ما إلى مركز إسعاف و هناك بقيت رفقة رضيعها الذي لم ينزع منها رغم أنها تعاني من اضطرابات ذهنية لكن لم تنته مأساة سعاد عند هذا الحد بل غادرت المكان و عادت إلى الشارع من جديد و قد تبين أنها ماتت، كيف و متى هذا ما يبقى مجهولا؟.
و هناك أيضا احد المعوقين حركيا غادر مأواه الجديد وعاد إلى العاصمة متخذا الشارع مأوى له فهو الآن يعيش مشردا يجول بشوارع العاصمة في الصباح تجده بسوق “ميسوني” جالسا على كرسيه المتحرك ينتظر ما يتصدق عليه أصحاب البر و الإحسان و في المساء يبحث عن أي مكان قد يحميه من مخاطر الشارع لكي يقضي ليلته .