حضورهم المتزايد انتقل من ورشات البناء والطرق إلى المقابر…الصينيون يدفنون موتاهم في مربعات خاصة بمقبرة العالية وطقوس غريبة تحكم مراسيم الدفن
بعدما منعوا من حرق الدينار الجزائري حرقوا نسخا طبق الأصل
لم يعد يقتصر الوجود الصيني في الآونة الأخيرة على منافسة الجزائريين في ورشات البناء والتجارة والأشغال الكبرى، بل تعدى ذلك إلى مزاحمتهم حتى في المقابر، حيث وقفت “النهار” على وجود عشرات القبور الصينية بمقبرة العالية في العاصمة دون وجود أي عازل بينهم و بين القبور الأخرى.
لم يكن من السهل علينا الحصول على معلومات تؤكد وجود مقابر صينية جنبا إلى جنب مع مقابر الجزائريين، فعند دخولنا إلى مقبرة العالية من الباب الرئيسي، تحدثنا إلى عون حراسة وحاولنا استدراجه بكل الطرق لإفادتنا بمعلومات حول دفن أحد الصينيين بمقبرة العالية، فأجاب العون أن المعلومة التي تفيد بوجود صينيين بالمقبرة صحيحة وأنه سيرشدنا الى مكان دفنهم بمقبرة المسيحيين، لكن سرعان ما طلب منا المغادرة لمدة قصيرة لإخبار صديقه بأنه سيرافقنا، فإذا به يعود وينكر ما قاله، وطلب منا الرحيل، لأن الإدارة اكتشفت أننا من الصحافة وألزمنا بالخروج فورا.
وبينما نحن نهم بالخروج، لمحنا شابين يهمان بمغادرة المقبرة، وبمجرد اقترابنا منهما حتى سارع أعوان الحراسة إلى طردنا مرة أخرى لنخرج بشكل عادي. وخلال دردشة مع الشابين، محمد وعادل، قالا إنهما بطالان، ومن أبناء المنطقة، وأنهما اعتادا على الدخول والخروج عبر المقبرة، سألنا محمد إن كانت توجد حقيقة مقبرة خاصة بالصينيين في العالية، فقال سأدلكم على الطريق الأمثل ومن الباب الخلفي، حيث لا توجد حراسة ويمكنكم الدخول بسهولة، توجهنا رفقتهم إلى الباب الخلفي حيث أحسسنا بحسن نية الشابين اللذين رافقانا وأنهما يريدان مساعدتنا في الوصول لما نريد.
استسمحنا مرافقينا لأخذ ولو نصف ساعة من وقتهم للحديث عن ظروف دفن الصينييين في العالية، فتردد عادل ثم رد قائلا “بدينا الخير نكملوه”، توجهنا إلى الباب الخلفي، حيث كانت المقبرة خالية من الزوار على عكس الجهة الأمامية الأخرى، قصدنا مباشرة القبور الصينية، لأن محمد وعادل يعرفان الطريق جيدا، حيث أرشدانا إلى المقبرة الإنجليزية والمجاورة للفرنسية، وهناك دمجت معهما القبور الصينية، حيث اكتشفنا أنه لا وجود لحاجز أو عازل بين القبور المسيحية والجزائرية إلا ممر يقارب عرضه المترين للراجلين ولا يسمح إلا بمرور سيارة لا أكثر.
يرمون النقود ويحرقون الأوراق النقدية وممتلكات الميت في مراسيم الدفن
لدى وصولنا إلى المقبرة المسيحية حسبما تعرف، وجدنا شابين في العشرين من العمر يجلسان على أحد القبور الصينية التي تعد بالعشرات وهما يحملان سجائر في أيديهما، كان اليوم جمعة والتوقيت يشير الى الثانية عشر والنصف زوالا، سألناهما عن سبب جلوسهما بالمكان فأجاب “أمين” أنهما يقصدان المكان لوجود ظل الأشجار للترويح عن النفس، شاركناهما الجلسة التي دامت حوالي نصف ساعة حيث اكتشفنا أنهما من رواد المنطقة على حسب قولهم، سألناهم عن أيام دخول الصينيين إلى مقبرة العالية، فقال “أمين” كغيرهم من المسيحيين يومي السبت والأحد، وكشف لنا عن وجود شبه غرفة مربعة الشكل بها نافذة صغيرة، يقال إنها كانت عبارة عن بئر ثم ردم لتخصص للصينيين لحرق جثث موتاهم، لكنهم منعوا من ذلك، فدمجوا مع القبور المسيحية الأخرى دون الإنجليزية بالجهة المقابلة المشكّلة من نفس البناء ويعلو كل قبر صليب، على خلاف المربع الآخر المخصص للفرنسيين ومختلف الجنسيات التي تختلف قبورهم الواحد عن الآخر، إلا القبور الصينية المتسلسلة الواحد تلو الآخر والمكتوب على جلها باللغة الصينية، والتي لم نستطع فهم أي شيء منها إلا سنة ازدياد الميت ووفاته وكذا البلد “الصين” باللغة الفرنسية، بالإضافة إلى عشرة موتى دفنوا أثناء الزلزال على طريقة واحدة، ووضعت على قبورهم قطعة من الرخام كتبت عليها باللغتين الفرنسية والصينية، والتي توحي بأنهم من ضحايا زلزال 2003.
بعد ذلك واصل أمين حديثه مؤكدا أنه حضر في إحدى المرات مراسيم دفن صيني توفي في حادث عمل بورشة بناء بالعاصمة، وقال “الصينيون لا يبكون على موتاهم، فما لاحظته خلال الجنازة لا يوحي بحزنهم فهم يضعون الميت الذي يجلبونه داخل الصندوق ويوارى مباشرة التراب، حيث لا يتوانى الحاضرون في رمي النقود التي يعتقد أنها تركة الميت، بالإضافة إلى أنهم يحرقون الأوراق النقدية داخل القبر”.
ما أثار استغرابنا لدى حديثنا إلى أمين هو سرده لبعض الممارسات والمشاهد التي تطغى على طقوس الصينيين الذين يحرقون الأوراق النقدية الجزائرية بعد وضع الجثة في القبر، إلا أن سلطات إدارة مقبرة العالية منعتهم من هذه التصرفات المسيئة للدولة الجزائرية، فأصبحوا يجلبون نسخا طبق الأصل للنقود الجزائرية وتحرق على الميت ليغطى بالتراب.
لحوم، فواكه، مشروبات كحولية ودجاج مخنوق ..طقوس زيارة موتاهم
تتميز زيارات الصينيين لقبور موتاهم بعدة طقوس، والمعروف عنهم أنهم يمشون جماعات، وحسب قول أمين فإنه لم ير مرة صيني يدخل المقبرة لوحده، بالإضافة إلى أن زياراتهم تكون دون نسائهم، مشيرا إلى أنه “كل مرة أرى الصينيين عندما يزورون موتاهم يصطحبون معهم مختلف المأكولات، كاللحم الطازج الذي رأيته عدة مرات، حيث اتضح لي أنه لحم القطط والكلاب، بالإضافة إلى أنهم يضعون صحونا بها سلطة فواكه وأخرى بها مأكولات مختلفة، إضافة إلى جلب الدجاج، الإوز والبط المخنوق وكذا المشروبات الكحولية باهظة الثمن”، ويقول أمين أنه حاول عدة مرات معرفة البلد مصدر تلك المشروبات لكن كل ما سجل على تلك القنينات أو العبوات كتب باللغة الصينية اعتقادا منهم أن الميت يأكل منها، وما لا يختلف عن المسيحيين هو أكاليل الزهور التي يضعونها فوق القبر ليأخذها متسولو المقبرة فيما بعد.
وبينما أسهب محدثنا في تفاصيل أدق وهو يفيدنا بما عاشه ويراه يوميا بشأن دفن الصينيين وطقوسهم، لمحنا عون الحراسة وشعرنا برفضه لوجودنا مرة أخرى، فغادرنا المكان بهدوء.
أكد أن الجزائر تلتزم بالاتفاقيات الممضاة، مدير تسيير الجنائز لولاية الجزائر :بالعالية مربعات لدفن الرعايا الأجانب.. والأقدام السوداء أوصوا بدفنهم في الجزائر
كشف مدير تسيير الجنائز ومصلحة حفظ الجثث لولاية الجزائر، جخنون أحمد، أن السلطات الجزائرية خصصت مقابر خاصة لدفن الرعايا الأجانب المنتسبين إلى ديانات مختلفة غير الإسلام، مؤكدا عدم دفنهم في مقابر المسلمين، باعتبار أن ذلك يعد مخالفة للشريعة الإسلامية.
وأوضح أحمد جخنون في اتصال مع “النهار”، أمس، أن مقبرة العالية بالعاصمة تضم مربعات خاصة بدفن الرعايا الأجانب بالجزائر، على غرار باقي المقابر، وذلك بناء على اتفاقيات دولية التي أمضتها الجزائر في هذا الإطار، والتي ترمي إلى دفن الأجانب الذين كانوا يقيمون بالجزائر، إما في إطار عمل أو زيارة، مشيرا إلى أن عمليات الدفن تكون بناء على طلب تتقدم به الجهات الرسمية المشرفة على شؤون الرعايا، كالقنصليات والسفارة أو العائلات التي تفضل أن تدفن في أرض الجزائر.
وأفاد المتحدث بأن عائلات المتوفين الأجانب تقوم إما بشراء أو كراء مساحة القبر الموجود داخل المربع الخاص بالدفن لمدة قد تتجاوز 20 سنة، وذلك بناء على ما هو معمول به في التشريع الخاص بالبلد الذي ينتسب إليه المتوفى، كما تطبق عليه شعائرهم الخاصة المتعلقة بالدفن، سواء كان مسيحيا أو بوذيا أو معتقدا لأية ملة أو مذهب.
ومن جانب آخر، أكد المعني أن العديد من الرعايا الأجانب يدفنون في مقابر المسلمين، بعد أن اعتنقوا الإسلام، وشدد على أن المؤسسة تفرض مجموعة من الإجراءت للتأكد من صحة أن الرعية مسلم، ولمنح الترخيص بالدفن، مؤكدا أن العديد من الرعايا يرفضون فكرة دفنهم في مقابر المسلمين.
ومن جهة أخرى، صرح المتحدث لـ “النهار” أن الكثير من الأقدام السوداء تركوا وصايا لدفنهم في الجزائر بعد كراء المربع المخصص للدفن، أو يقومون بكرائه لمدة 20 الى 30 سنة، حسب ما هو معمول به في القوانين الخاصة بهم.
يمثلون45٪ من الأجانب المقيمين ببلادنا وعددهم يفوق 19 ألف رعية:الصينيون يزاحمون مؤسسات الإنجاز الغربية ويغرقون السوق الجزائرية بسلعهم
تعكس آخر الأرقام المقدمة من وزارة التشغيل والتضامن الوطني مدى انتشار الصينيين ببلادنا لأغراض مختلفة، حيث أظهر آخر إحصاء عن العمالة الأجنبية أن الصينيين يمثلون 45٪ من الأجانب المقيمين في الجزائر، وذلك بعدد رسمي يزيد عن 19 ألف صيني، موزعين على قطاعات البناء والنفط والاتصالات والمعلوماتية، ويبقى هذا الرقم مرشحًا للارتفاع خلال الأشهر القادمة، نظرًا لاختيار بعض الشركات الصينية لتسيير مشاريع حيوية في مجالات متعددة خاصة البناء.
وأكثر المجالات اقتحاما من طرف الصينيين، أو كما يحلوا للبعض مناداتهم “الشناوة”، هو قطاع البناء والطرق والأشغال الكبرى المتعلقة بالبنى التحتية، بتوليهم مهمة إنجاز أكبر المشاريع المبرمجة في المخطط الخماسي الجاري للتنمية المدعم بتمويلات ضخمة يقدرها البعض بأكثر من 200 مليار دور في المجموع، لكن هذا لم يمنعهم من دخول تخصصات أخرى، منها التجارة كبيع الملابس والمنتوجات الصينية المختلفة، حيث غزت هذه التجارة شوارع العاصمة وكبريات المدن بالنظر إلى نوعيتها المنافسة للمنتوجات الغربية وانخفاض سعرها؛ ففي قلب العاصمة يوجد زهاء 40 محلا لبيع السلع الصينية.
وبلغ حجم الاستثمارات الصينية في الجزائر العام الماضي 600 مليون دولار، في حين بلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين 3,8 مليار دولار في 2007 بعدما كان لا يتجاوز مليار دولار فقط في 2002. وتسعى الصين بوجه عام لإقامة علاقة شراكة استراتيجية مع دول إفريقيا، خاصة الشمالية منها، وهو ما عبرت عنه بقوة أثناء انعقاد قمة الصين إفريقيا ببكين.
الشيخ مفتاح شدادي إمام بمسجد الكوثر:”لا يجوز دفن الكفار في مقابر المسلمين.. وكثرة الصينيين يفرض إقامة مقابر لهم”
أكد مفتاح شدادي، إمام مسجد الكوثر بالبليدة، في اتصال بـ “النهار”، أن القاعدة الشرعية في الإسلام لا تجيز دفن الكفار في مقابر المسلمين، فللمسلمين مقابرهم وللكفار مقابرهم، إلا أنه عند الضرورة القصوى يجوز دفن غير المتدينين بالإسلام إذا ما مات في أرض الإسلام في مقابر المسلمين، وذلك في حال ما إذا أمر الحاكم بذلك عند وقوع حادث راح ضحيته مثلا، “هنا لا حرج لدينا نحن كمسلمين، لأن كل نفس بما كسبت رهينة وكل يحاسب وحده”، يضيف الإمام، موضحا أن هذا الأمر وارد في حال ما إذا كان الميت مجهول الهوية، أو ارتأت سلطات بلده عدم نقل جثمانه ودفنه حيث يقيم، وفي هذه الحالة يجوز دفنه في مقابر المسلمين تعظيما للروح التي بعثها الله فيه، فالمقياس في ذلك ليس الديانة ولا الجنسية، على أن يتم الفصل بين قبور المسلمين والكفار بحاجز يوضّح ذلك.
ويرى الشيخ أن هذا الاستثناء متعلق بشرط ضروري، وهو عدم إشراك الكافر في قبر المسلم، أو بنبشه إذا كان القبر قديما، ومن ثمة جمع عظامه، وجعلها في كيس يوضع عند رجلي الميت الجديد، “فهذا لا يجوز أبدا”.
أما عن دفن الصينيين في مقبرة العالية، فيقدر الشيخ أن ذلك يجري بناء على أمر من السلطات الجزائرية المعنية، بعد اتفاق بينها وبين السلطات الصينية، خاصة في إطار التعاون بين الدولتين على غرار باقي الدول، لكن يبقى جواز ذلك شأنه شأن إباحة الحرام في الضرورة القصوى، كشرب الخمر في حال غياب الماء الذي قد يفضي إلى الوفاة.
وفي ظل التواجد الصيني المكثف في الجزائر في إطار التعاون بين البلدين، اعتبر الشيخ أنه من الضروري إقامة مقابر خاصة بالصينيين على غرار بقية الكفار، وذلك تجنبا لدفنهم مع المسلمين، باعتبار أن الصينيين يدينون بعدة ديانات، ولا نعرف إن كان هؤلاء يدينون بالمسيحية أم البوذية، أم يعبدون البقر.