تهريب الوقود يقتل الفلاحة عبر الحدود
يعيش سكان الشريط الحدودي الفاصل بين الجزائر والمملكة المغربية منذ تشديد الخناق على مهربي الألبسة والمواد الغذائية داخل التراب الجزائري على عائدات تهريب المواد الطاقوية من بنزين بأنواعه والمازوت.
جريدة “النهار” وعلى مدار ثلاثة أيام، ترصّدت حركات .الحلابة. وهو الإسم العامي الذي يطلقونه في المنطقة على كل من يزاول نشاط تهريب الوقود، وتنقل “المقاتلات” وهي التسمية التي تطلق على السيارات العابرة للحدود وهي من نوع رونو 21 ورونو 25 ومرسيدس، وهي سيارات تتميز بخزانات وقود واسعة والمتانة والسرعة وتحمّل السير في الشعاب، بالإضافة إلى القصر الذي يمكنها من الاختباء بين الأحراش. كما رافقت “النهار” مهربي الوقود “الحلابة” من محطة توزيع البنزين داخل التراب الجزائري من مغنية إلى غاية محافظة وجدة المغربية، وهي محطة الوصول للوقود الجزائري المهرب عبر الحدود، كما تتبعت خطى مهربي الوقود على متن الحمير ليلا، ورصدت تنقلات أصحاب المقاتلات انطلاقا من محطات البنزين بمغنية والبلديات المجاورة لها، وتسلّلها إلى داخل التراب المغربي عبر المسالك الترابية عابرة الوادي الذي يفصل بين البلدين. وخلال تواجدنا بالمنطقة، وقفنا على ثلاث طرق لتهريب المواد الطاقوية التي تبقى أسعارها منخفضة في الجزائر وعالية الجودة مقارنة بشبيهاتها في المغرب ذات الجودة الرديئة والأسعار المرتفعة جدا. هذه الطرق تختلف حسب الطبيعة الجغرافية للمنطقة وتضاريسها والرقابة عبر الحدود، خاصة المسافات الفاصلة بين المستودعات والزبون بالجهة الأخرى من الحدود.
كل الوسائل مسخّرة للتهريب الطريقة الأولى التي يعتمدها مهربو البنزين بمنطقة بوكانون الحدودية مثلا، تتمثل في جمع كميات كبيرة من الوقود في الفترة الممتدة من السابعة صباحا إلى غاية الخامسة مساء في أحد المستودعات، وهي الكمية التي يجلبها أصحاب المقاتلات إلى .الحلابة.. المستودعات مجهزة بمضخة كهربائية تمكّنهم من تفريغ صهريج السيارات في وقت وجيز، وهنا يتم أيضا ملء الدلاء البلاستيكية بسعة 30 لترا، وبعد غروب الشمس تنتعش المنطقة بحركة غير عادية مقارنة بـ .النهار. حين تبدو القرى والمجمعات السكنية شبه مهجورة. وفي الفترة المسائية، تجلب الدواب التي تقضي النهار كله بعيدا عن التجمعات السكانية حتى لا تثير الشبهة إلى المستودعات، حيث يتم تحويلها وتوضع على ظهر كل دابة 6 “جريكانات” من سعة 30 لترا أي بمعدل 180 لتر لكل دابة. هذه الدواب تربط الواحدة مع الأخرى لتكوّن قافلة أي بمعدل 10 إلى 15 حمارا، وغالبا ما يسوقها مرشد أو اثنان عبر الوادي على مسافة حوالي 700 متر. وقد تجنبنا التقاط صورة خشية جلب انتباه الحراس الجزائريين أثناء مرافقتنا لإحدى القوافل التي انطلقت في حدود الساعة الواحدة ليلا من منطقة بوكانون اتجاه قرية أحفير المغربية. أول من كان في استقبالنا بعد اجتيازنا الحدود خلال فترة زمنية لم تتعد ربع ساعة، حراس الحدود المغاربة .المخازنية. كما يسميهم أهل المنطقة، وقد نادى “المخازني” المهرب الجزائري باسمه وأبلغه أن صاحب السلعة أي البنزين في انتظاره في مكان معين، كما طلب منه الإسراع في تفريغ الحمولة. وكم كانت دهشتنا أثناء مقابلتنا للحراس المغاربة، حيث انتابنا نوع من الخوف لدخولنا التراب المغربي بطريقة غير شرعية، وبعد مفارقتنا لهم توجهنا إلى المحطة الأخيرة في المهمة، وهي عبارة عن سكن متواجد عند مدخل قرية أحفير المغربية. وبعد دقائق قليلة من دق المرشد باب المنزل، خرج شخص نحيف في العقد الرابع من عمره، وبمجرد أن رآني سأل المرشد عن هويتي فطمأنه هذا الأخير أنني أحد أقاربه وجئت من مدينة وهران لزيارة مدينة وجدة، وطلب منه الاعتناء بي إلى غاية رجوعي بعد ظهر ذلك اليوم.
وجدة، وجهة الوقود الجزائري وبعدما تناولت فنجانا من الشاي من النوع المغربي استلقيت إلى غاية طلوع النهار، وفي حدود الساعة السابعة صباحا سمعت منبه سيارة ودقات على الباب عندها طمأنني صاحب البيت أن هؤلاء زبائن جاؤوا لاقتناء الوقود الجزائري. وبخصوص الأسعار والمبادلات، علمنا أن سعر “جريكان” من سعة 30 لترا تباع بين 800 و950 دج للبائع المغربي الذي يعيد بيعها للتر الواحد منها بما يعادل 40 إلى 50 دج حسب الظروف والطلب والحراسة. وفي الصباح، وخلال تنقلي إلى محطة العبور الحدودية المغلقة، شاهدت على طول المسافة الممتدة من القرية المذكورة والمحطة الحدودية على عدة كيلومترات طوابير السيارات على حافتي الطريق يقصدون المكان لاقتناء البنزين والمازوت الجزائري الذي يبيعه هناك أطفال لا تتجاوز أعمارهم العاشرة في قارورات بلاستيكية بسعة لتر إلى 10 لترات. الطريقة الثانية تتمثل في إدخال السيارات “المقاتلات” كما يسميها المهربون مباشرة داخل التراب المغربي دون المرور بالمستودع، هذه الطريقة معتمدة خاصة في منطقة باب العسة، حيث يمكن للسيارات عبور الحدود والدخول مباشرة إلى التراب المغربي عبر مسالك مهيأة لهذا الغرض وهذه الطريقة تعتمد على السرعة والمباغثة.
في البداية تهيأ السيارة للتهريب، وذلك بنزع المقاعد الخلفية وحتى المقعد الأمامي المجانب للسائق، وذلك ربحا للمكان ولوضع أكبر عدد ممكن من .الجيركانات. زيادة على خزان السيارة. هذه السيارات الخاصة بالتهريب مجهولة الهوية وبدون وثائق، يتم اقتناؤها من مغاربة بعد سرقتها من مليلية الإسبانية ولا تسير إلا في الليل أو في الصباح الباكر لتفادي الحواجز ونقاط المراقبة. صاحب إحدى هذه السيارات صرح لـ .النهار. أنه يفضل .المقاتلة. كما يسميها على الدواب كون ثمنها لا يتعدى 7 ملايين مقارنة بسعر الحمار الذي يفوق ثمنه 50 ألف دج علاوة على المصاريف الإضافية “الشرب والأكل” إضافة إلى طاقة الحمولة. مستعملو هذه الطريقة من المهربين يعتمدون على عدد السيارات القانونية والشرعية التي يملؤون خزاناتها بمحطات البنزين ليتم تفريغها في جريكانات وتتكفل .المقاتلات. بمهمة نقلها إلى القرية المغربية. أما الطريقة الأخيرة والمحفوفة بالمخاطر، فتتمثل في ملء خزان جرار شاحنة مباشرة من محطة البنزين إلى القرية المغربية المجاورة لها، كما هو الحال على الطريق المؤدي إلى دائرة بورساي الساحلية.
مظاهر ثراء فاحش بالمناطق الحدودية وخلال تنقلنا إلى المنطقة بين مغنية والزوية وباب العسة والسواني وبوكانون وبورساي، لفت انتباهنا غلق معظم محطات توزيع البنزين خلال النهار والطوابير اللا متناهية من السيارات أمامها. وعند استفسارنا عن السبب، أجابنا أحد أصحاب المحطات أنه يتفادى بيع البنزين في النهار لعامة الناس بكميات صغيرة مفضلا .الحلابة. الذين يملؤون الخزان ويدفعون نقدا وبكرم. أزمة البنزين في المنطقة عشناها بكل جوارحنا عندما تعطلت سيارتنا بسبب انقضاء البنزين في الخزان واضطررنا إلى شراء البنزين المهرب بـ 750 دج مقابل 15 لترا رغم وجود أكثر من 15 محطة بنزين بالمنطقة، وعلمنا أن بعض أصحاب هذه المحطات من ذوي النفوذ، وما لاحظناه عبر القرى والمجمعات السكنية عبر الشريط الحدودي هي آثار الغنى الفاحش الذي يذره تهريب البنزين على بعض الناس، إما لممارستهم هذا النشاط، أو لغضهم الطرف عنه، أو لتواطئهم في هذا النشاط، وهذا ما تظهره القصور والفيلات الضخمة المشيدة حديثا في الدواوير رغم ركود النشاط الفلاحي الذي يطبع هذه المنطقة، فالفرق بيّن بين ضفتي الوادي الفاصل بين الجزائر والمغرب، ففي الجهة الأخرى أي في الجهة المغربية يلفت انتباهك اخضرار الأرض والبساتين والمزارع والفلاحين وسط الحقول، بينما تتميز الجهة الأخرى من الوادي أي في الأراضي الجزائرية بالإهمال الشامل للأراضي التي بقيت بورا وغزتها الأعشاب الضارة التي غيرت من طبيعة هذه الأرض وأعطتها صورة البؤس والإهمال. عزوف أهالي المنطقة عن خدمة الفلاحة تفسره الأرباح الطائلة التي جناها المهربون من خلال المتاجرة في المواد الطاقوية، حيث تصل الكمية المهربة يوميا ما بين بنزين ومازوت إلى 210 ألف لتر يوميا، علما أن كل محطة لها الحق في 21 ألف لتر يوميا، فبينما تزود المنطقة بـ 315 ألف لتر يوميا يتم تهريب 210 ألف أي أن استهلاك المنطقة من المواد الطاقوية لا يتعدى 105 ألف لتر يوميا.