“النهار” تتوغل في “عين الحمراء” معقل تنظيم “القاعدة” في الجزائر
“عين الحمراء” شرق ولاية بومرداس تعتبر حاليا من المناطق الأكثر خطورة في الجزائر لسبب بسيط وهو أن الكثير من أبناء هذه المنطقة الجبلية والنائية يؤيدون الإرهاب عن قناعة أو تحت ضغط الترهيب والإكراه.
وبسبب هذه الصورة السيئة عن هذه البلدة لم يعد الكثير من سكان المناطق المجاورة يأتمنون على أنفسهم عندما يدخلون إلى هذه البلدة.
يعترف خبراء في الشأن الأمن أن منطقة “عين الحمراء” تعتبر قلب مثلث الموت الذي رسمه تنظيم “القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي” خلال السنوات الأخيرة في شرق بومرداس لضمان بقاءه على مستوى المناطق الجبلية المجاورة. ومن صدف التاريخ أن هذه البلدة التاريخية التي تنسب إليها الآن مختلف روايات القتل والإجرام ولد فيها خائن الثورة التحريرية المدعو “بلونيس” وأيضا المدعو “أبو الهيثم” العضو القيادي البارز في تنظيم “القاعدة” الذي لقي مصرعه قبل شهرين في عملية ناجحة لأجهزة الأمن.
شباب هذه البلدة ضائع بين إرهاب يدعوه ليكون ذخيرته وعدته في تنفيذ العمليات الإرهابية أو البطالة التي حولته إلى مجرد أرقام بسيطة في معادلة التهميش والاحتقار بعد أن رمت بهم المؤسسات التعليمية إلى الشارع مبكرا.
الجهة الشرقية لبلدية برج منايل على مسافة 6 كلم تستقبلك منطقة “عين الحمراء” متربعة في شكل قرية صغيرة فوق سفح جبل شامخ تعانق أشجار الزيتون والصفصاف عنان السماء.
كان الهواء النقي يثلج الصدور بنسيمه الريفي العليل عند وصولنا المنطقة، بعيدا عن صخب المدن وضجيجها، حتى ينتاب الزائر شعور وانجذاب للمكوث في إحدى هذه المنازل الريفية البسيطة والخلود للراحة. تنقلنا وسط خضرة المروج والبراري الفسيحة عبر طرق ترابية ملتوية، ففضولنا لاكتشاف المنطقة كان لا يوصف خاصة مع انتشار أخبار تروي خطورة ودموية “عين الحمراء” حتى كدنا ننسى اسمها لما وردنا عنها من مظاهر القتل والإرهاب.
فالجمال الريفي الذي يطبع المنطقة والهدوء الذي يخيم عليها، لا يكاد يوحي للزائر أنها تخفي أسرارا وجراحا عميقة كانت ولازالت الجماعات الإرهابية تطبعها في قلوب العديد من سكانها الذين فضلوا تناسي فترة التسعينات أين أفجعهم ذلك الماضي الأسود في أهاليهم الذين أعماهم الجهل لسلك الطريق الدموي وحمل السلاح في وجه اخوانهم الأبرياء ليتوارث البعض من أبنائهم ما سماه أباءهم بـ “الجهاد”.
خيانة الضابط بلونيس وخيانة “أبو الهيثم”
يشير تاريخ منطقة “عين الحمراء” إلى حكاية عن الضابط “بلونيس”، ابن المنطقة الذي كان رفقة “مصالي الحاج” في حزب الشعب الجزائري إبان الثورة، حيث يعرف بخيانته العظمى اثر ترأسه لجيش صغير مساند للمستعمر الفرنسي، كان ينشط ضد حزب جبهة التحرير الوطني، لتكون نهايته على أيدي المنظمة السرية التي قامت بتصفيته، وقد أنجبت المنطقة لاحقا من أمثال “بلونيس” في الخيانة مع ظهور المدعو عبد الحميد سعداوي” المكنى “يحي أبو الهيثم”، والذي كان مسؤول المال في قاعدة الجزائر قبل أن تقضي عليه قوات الأمن بضواحي تيزي وزو بتاريخ 14 نوفمبر 2007.
وقد نصحنا العديد من العارفين بشؤون المنطقة بعدم الاقتراب من منزل المدعو “أبو الهيثم” نظرا لما ينتشر بالمنطقة من جماعات الدعم والإسناد التي تتولى مهمة التحري والتقصي عن كل ما يجول في أرجاءها لذلك فضلنا التجول في ربوعها والتحدث إلى سكانها.
“أبو الهيثم” مفخرة سكان بلدته
وسط خضرة اكتسحتها براري المنطقة، امتزجت بزرقة السماء الصافية، تتوسط عين ماء إحدى الحقول، التقينا بجماعة من النسوة كن يحملن دلاء فارغة متوجهات لملأها، وبعد دردشة صغيرة، وبصرامة حياة المرأة الريفية أدهشتنا صراحة إحدى النساء التي أجابتنا بعد سؤالنا عن عبد الحميد سعداوي، “رجل وسيد الرجال، كان متعلما ومات رجلا”، وفهمنا بعدها أنه قريبها لتضيف: “عندما كان حيا كان الخير يعم على عين الحمراء”.
وأنكرت بشدة خطورة الوضع الأمني بالمنطقة قائلة :”أخرج من بيتي لأجلب الماء على الساعة السابعة صباحا ولم يعترض طريقي أي شخص أو إرهابي”. وينحدر “أبو الهيثم” من عائلة سعداوي، وهي كبيرة جدا ومعروفة بالمنطقة، وقد سلك نهجه العديد من أبناء عمه وشباب منطقته والأدهى من ذلك أنه لازالت عملية تجنيد هؤلاء الشباب متواصلة تحت نظرية من يصل سن الرشد وجب عليه حمل السلاح والالتحاق بصفوف إخوانه بالجبل، حيث روت لنا إحدى النساء حكاية ذلك الشاب الذي أراد الالتحاق بالجماعات الإرهابية فاشترطت عليه تقديم ضمان تمثل في قتل صديقه الذي رفض إتباع نهج والده وأخاه الإرهابيان، الذين قضت عليهما قوات الأمن.
وبعد المعلومات التي استقيناها من عمق المنطقة، اكتشفنا أن الشباب الذين تلفظهم المدارس التربوية إلى الشارع تحتضنهم أيادي الجماعات الإرهابية، بسبب التهميش ولامبالاة المسؤولين.
ويعتبر أكبر تهديد يعيق أمن المنطقة هو “جماعات الدعم والإسناد” التي تقوم بنقل الأخبار للجماعات الإرهابية، وكذا دعمها بالمواد الغذائية، وغالبية هذه الفئة هم أطفال بعمر الزهور، يتم استغلالهم بمبالغ مالية مقابل التقصي ونقل الأخبار والمعلومات حول تحركات مصالح الأمن بالمنطقة.
منطقة فلاحية تشكو غلاء خدمتها
سحر المنطقة جعلنا نتجول بين البيوت التي تتوسط البساتين الخضراء، تحت ألحان عزفتها الطبيعة الغناء، فامتزجت بزقزقة العصافير المرحة وخرير واد صغير كان ينساب متلألأ تحت أشعة الشمس الدافئة، حيث كان بعض فلاحي المنطقة يتفقدون أراضيهم ومحاصيلهم في صمت وسكون يوحي بارتباط وثيق بينهم وبين هذه الأرض، التي رغم المشاكل والمعاناة التي أصبح يتكبدها هذا الفلاح في خدمتها، إلا أنها بقيت محافظة على خضرتها وجمالها وكذا وفاءها لصاحبها الذي أجبرته الظروف الأمنية الصعبة خلال التسعينيات إلى هجرها مرغما، ليتفاجأ بعد عودته إليها بعدم قدرته على خدمتها والمحافظة على منتوجها.
فباعتبار المنطقة فلاحية بالدرجة الأولى بسبب شساعة مساحاتها الزراعية الممتدة على طول الحدود مع “كاب جنات”، إلا أن فلاحيها يعانون اليوم مرارة غلاء أسعار خدمتها ومتطلباتها التي أضحت هاجسا أجبرهم على المكوث داخل منازلهم والنظر إلى هذه الأرض عن بعد بحزن وشفقة، حيث عبر أحد الفلاحين عن ارتفاع أسعار البذور والأسمدة، حتى عملية الحرث أضحت تتطلب مبالغ ضخمة، حيث صرح قائلا: “أقوم باستئجار صاحب الجرار ليحرث لي قطعة أرض ذات 4 هكتارات بـ 500 دج للساعة الواحدة لأجد في الأخير قيمة الخسارة أكبر بكثير من قيمة الربح”.
وهذا ما أدى إلى الانتشار الفادح للبطالة بين صفوف شباب “عين الحمراء”، فالأرض التي كانت تحتضنهم في خدمتها أضحت اليوم تتطلب أموالا ضخمة مقابل خدمتها، مما جعلهم في الأخير يلجأوون إما للالتحاق بصفوف الجماعات الإرهابية أو البقاء في الاحتياط للمساندة والدعم إلى حين استدعاءه للقيام بدوره في الانضمام إلى أقرانه من تجار الموت. غادرنا “عين الحمراء”، التي سحرنا جمالها الطبيعي الخلاب على أمل اكتمال هذا الجمال الرباني بسلام وطمأنينة.