الصالح وحده مسؤول عن العيش داخل فضاءات محصنة وآمنة
الدول المتقدمة حين تحارب جهاتها المتخصصة أي نوع من الداء أو الظواهر المعيبة اجتماعيا وإنسانيا، تتوجه مباشرة إلى الأسباب الجذرية الباطنية بنية القضاء على قوائمها وأحيائها، حيث وصل بها الأمر إلى حد عدم الحكم بالإعدام على المجرم مباشرة، بل أولا جلب مجموعة من المتخصصين والخبراء لدراسة الدوافع النفسية والروحية والثقافية والاجتماعية التي كانت وراء هذا الشخص الذي أقدم على فعلته.
لقد تمّ نهج والعمل بنفس الطرق مع عدد من الأمراض المستعصية في زمن لا تزال البحوث جارية حتى يرث الله الأرض ومن عليها، أما الأمور في دول العالم الثالث ممن توصف بالأكثر تخلفا وفقرا وحرمانا، فإنها تختلف تماما عن الأولى، بحكم وجود تفاوت طبقي ملحوظ وظاهرة للعيان في الحياة اليومية، حيث «البارونات» والسماسرة و«تجّار الأزمات» يحتكرون المشهد، وهذا يبيّن حجم المآسي التي تُلحق تباعا وتُنتج بل تطفو على السطح.
هناك رقّ واستعباد من دون تسميته باسمه الحقيقية وهناك عمالة للأطفال وتحرش جنسي وعنف مدرسي وآخر في الملاعب وفي الإدارات والأسواق العامة وضد المرأة وفي المنزل، فلا تكاد هذه الظواهر تخلو من مكان معين إلا من رحم ربك، بسبب رواسب وصدمات لا تزال نابضة المفعول وحيّة، بل متجذرة تعمل كالآلة بكل حرية ومن دون رادع يُذكر.
الأوروبيون ممن نُكنّ لهم تحيات الإجلال والاحترام بحجة عقلانيتهم وإعمالهم لكثير من العلوم والمعارف، مرّت مجتمعاتهم بنفس حجم مشاكلنا وربما أكثر، لكن بصيغ وألوان وأنواع أخرى، غير أنهم عالجوها قبل أن يفكونها ويضعونها على طاولة التشريح والتشخيص، ثم البحث عن أنجع السبل للقضاء على خاطرها، ويكمن الفرق بين العالمين، أي هم ونحن، في حجم الاهتمام والتفكير ليس إلا، ومن دون الدخول في استهلال مطوّل، فأمامنا في الجزائر ظاهرة ليست بدخيلة اللحظة، فلطالما عانى من ويلاتها المجتمع بمختلف شرائحه لسنين عدة، إنها ظاهرة «الليشمانيوز»، والتي لا يمكن البتة وصفها بالمرض.
لأنها ليست وليدة الطبيعة ولا المناخ ولا الحيوان بشكل مباشر، وإنما هي وليدة الإنسان نفسه، يوم يعجز عن نفض الغبار من حوله، لأنها عبارة عن طفيل ينقله نوع من حشرة «الناموس» المسماة «الفليبوتوم» من الأماكن القذرة، خاصة تلك المتواجدة قرب قنوات الصرف الصحي، وأخطرها (كلا آزار)، ونقول بهذا الأمر لأن الإنسان وحده من هو أولى بتنقية وتنظيف بيئته، بل إبعاد كل المخاطر عن محيطة إذ توفرت لديه ثقافة بيئية ومعرفة دقيقة بأبسط الأمور المتعلقة بالصحة.
تقول التقارير الصحية إن عدد المصابين بهذا الداء الجلدي الخطير يعدّ بالآلاف حتى لا نقول بالملايين، وأغلب المصابين به يمكن تحديد جغرافية إقامتهم، حيث لا يبعدون كثيرا سواء عن مزابل أو جسور أو أكواخ وأودية، وتعمل السلطات المحلية في غالب الأحيان على رشّ هذه الأماكن مرة واحدة في السنة، وذلك في شهر ماي تقريبا، بحجة القضاء على تكاثر الناموس وهو الشهر الذي تبيض فيه هذه الحشرة، لكن الأصل هو أن لهذه الحشرة عشرات الأنواع، وكان الأجدر هو تهيئة وتنقية الأماكن التي يجدها ملجأ للتواجد والتكاثر، وليس تركها والإبقاء عليها ثم محاربة ما يصدر منها بطرق دراماتيكية وعشوائية!.
الإنسان وحده هو المسؤول عن العيش داخل فضاءات محصنة وآمنة ومحاطة بكل أنواع السلامة الصحية، فإن عجز بإمكاناته المحدودة، لجأ إلى الهيئات العمومية أو الجمعيات، فوجد ضالته بها، لكن للأسف هذا التواصل مفقود في أحياء وأرياف وقرانى الجزائرية، بسبب منظومة تائهة من السياسات الآنية والمؤقتة، والتي لا ينجو منها إلا من هو أقوى ماديا ومجهزا بأحدث التقنيات البيئية، كالإقامة في السواحل المحروسة و«الفيلات» المحاطة بالورود والمزروعات المستوردة، وهذا ما يعيدنا إلى الحديث عن التفاوت الطبقي الذي قتل أغلب الجزائريين وجعلهم فرائس سهلة، ليس فقط للأمراض القديمة والحديثة، بل لليأس والقنوط الحياتي كذلك، وبالتالي أضحت الطبقات الفقيرة والمحرومة هي الأكثر عرضة لمثل هذه الأوبئة، فإن لم تقتل، فهي تفسد وتشوّه الخليقة!.