الحاجة والعوز جعلاه يتمسك بالخياطة رغم بلوغه العقد التاسع:عمي صالح.. ما زال يسترزق من خرم الإبرة ويستأنس بزبائنه
أن تجد مصمما ماهرا في مقتبل العمر شيء مألوف تعودنا عليه، لكن أن تصادف شيخا في العقد التاسع يمتهن الخياطة ويجتهد فيها، فهذا نادرا ما نسمع عنه وقلّما نعثر عليه، ربما إلا بمدينة الحروش بولاية سكيكدة، فمن لا يعرف هناك عمي صالح أقدم خياط بالمنطقة، وربما بالقطر الجزائري ككل؟! فرغم بلوغه أربعة وثمانين سنة إلا أنه ما زال يبصر خرم الإبرة ويتفانى في أداء عمله بإتقان ودقة في المواعيد لن تجده عند أشهر الخياطين، رافضا بذلك مد يده للغير رغم عوزه.
يعيش عمي صالح مع زوجته في بيت قصديري بحي شعبي، لم نتمكن من طرق بابه بسبب هشاشته، يأبى استعطاف الناس، لذا فضل التمسك بمهنته التي باشرها منذ عام 1956، بعد أن كان يعمل مع أبيه في الحقول، ومند ذلك الوقت وهو يشتغل بمتجره الصغير وسط الأقمشة والملابس حتى احدودب ظهره، قابعا خلف ماكنته التقليدية التي لا يجد غيرها أنيسا بعد زوجته، هذه الأخيرة التي بلغت هي الأخرى عقدها الثامن ولم يعد باستطاعتها تدبر شؤون بيتها بعدما هرمت وخارت قواها وأنهك قدها الهزيل مرض السكري وضغط الدم، والفراغ الرهيب الذي تعيشه هي وعمي صالح بين أربعة جدران منذ سنين، إذ لم يكتب لهما أن يسمعا كلمة أمي أو أبي وينعما بجو عائلي وضوضاء الأطفال، لذلك اختار أن يشغل وقته بالخياطة وترقيع الملابس، فعلى الأقل يأنس بالحديث إلى زبائنه الذين يشهدون له بإخلاصه في عمله والأكثر من ذلك صرامته، حسب شهادة زبائن التقيناهم عنده قدموا من مناطق بعيدة خصيصا لرؤية عمي صالح، والفوز بلباس من تصميمه.
المعروف عن خياطنا تعامله ببطاقة الهوية، فمن المستحيل أن تضع قميصا أو سروالا للترقيع إذا لم تترك بطاقة هويتك، ويحدد لك موعدا لاستلام قطعتك، فحسب عمي صالح “النظام هو النظام”، لاسيما وأن ذاكرته أضحت تخونه في الآونة الأخيرة كيف لا وهو في سن متقدمة وليس له دخل آخر يعتمد عليه لسد رمقه، ولا ابن يصرف عليه، وهو ما جعل محدثنا يعيش مؤخرا حالة من الاحتقان على ظروفه في ظل تجاهل السلطات المعنية لوضعه المزري، حيث لم يستفد من أية منحة أو إعانة تكفيه عناء تتبع خرم الإبرة.
لكن همّ عمي صالح الأكبر هو أن يتلقفه ملك الموت هو أو عقيلته دون أن يعلم أو يحس بهما أحد، إذ أن أهله قليلا ما يتفقدونه.