التحرش الجنسي ضد المرأة العاملة إرهاب من نوع آخر.. يرفض المجتمع رفع الستار عنه:تحرش المسؤول، نظرة المجتمع، محدودية القانون .. ثلاثية ترهن كرامة المرأة العاملة
“ن.ب” أصيبت بأزمة نفسية بعدما وجدت مديرها عاريا خلف المكتب..فيما تنازلت أخريات من أجل امتيازات
أصبح التحرش الجنسي واحداً من كوابيس المرأة الجزائرية العاملة منها والطالبة الجامعية، يطارد يومياتها ببشكل مؤذي ومقزز، برغم القيم الأخلاقية المتعارف عليها والقانون الذي يجرّمه لردع المتحرشين بها وحمايتها من هذا الاعتداء الممارس في الظل بعيدا عن الأنظار، فتحت وطأة التحرش الجنسي، أضحت جزائريات كثيرات يعانين في صمت مطبق خوفا من الفضيحة في مجتمع لا يرحم، ويجرّم المرأة قبل حتى أن يفصل فيما إذا كانت متورطة أو ضحية، ومن لم تخف من الفضيحة فهي تفكر، وتمعن التفكير قبل أن تطرق أبواب المحاكم، ما يجعل إحالة هذه القضايا على العدالة قليلة ونادرة.
تحت ضغط ومساومة حقيرة هناك من يقبلن في ظل مجتمع لا يرحم وصعوبة تأكيد الاعتداء، رغم محاولة التعديلات الأخيرة للقانون الساعي الى توفير الحماية لهن، حيث أظهرت دراسة اجتماعية أن واحدة من كل عشر نساء تتعرضن لكل أنواع التحرش الجنسي، بداية من التحرش الجنسي الكلامي إلى التحرش الجنسي الجسدي، فاعتراف امرأة في مجتمع كالمجتمع الجزائري أنها ضحية هذا النوع من التحرش يعني أنها “سوف تعرّض نفسها للشبهة”، ليس لأنها تقول الحقيقة التي كتمتها في صدرها، بل لأنها قالت تلك الحقيقة في مجتمع منغلق، مستعد لإدانتها أولا وأخيرا.
فالتحرش الجنسي لا يُنظر إليه كجريمة ضد المرأة، بل تُتهم فيه بأنها “سبب تلك الجريمة” لأنها “لم تستر جسمها” ولأنها “تتبرج” في الشوارع، مع أن العديد من النساء المحتجبات تعرضن للتحرش الجنسي في مؤسسات عملهن، وبعضهن تعرضن إلى محاولة اغتصاب داخل مكتب المدير، لأن للمدير “الحق” في ذلك باعتباره المدير، ولأن المرأة التي تعمل عنده “جارية” يمكنه أن يأخذ منها بعض الأشياء كالقبل، واللمس وإلا ستطرد من وظيفتها وسوف تتهم في شرفها بأن “المدير طردها لأنها حاولت أن تتحرش به!”، بين هذا وذاك حاول “النهار” تلمس الحقيقة من قبل بعض الضحايا رغم حساسية القضية.
ليس لدي غير شرفي ولا أستطيع بيعه
الضحية “ن.ن” 23 سنة تلقت قرار الطرد من شغلها، سألتها عن سبب طردها فردت بتنهيدة “تقدمت للعمل في إحدى الشركات بعد أن قرأت في الجريدة إعلانا عن توظيف، تقدمت كغيري من الفتيات وبعد اختبار بسيط تلقيت رسالة التعيين”. وتضيف “كان الأمر رائعا في بدايته لأني أعيل أسرتي وأحاول مساعدتها على تحمل العبء كوني البنت الكبرى. المدير السابق كان محترما، يؤدي عمله ويطالبنا بتأدية عملنا دون زيادة أو نقصان، بعدها تم تعيين مدير جديد وبدأت المشاكل”. ولتوضيح المشكل أكثر قالت “اكتشفت أن المدير يطلب مني أن أغلق الباب عندما أدخل إلى مكتبه لأخذ الأوامر المتعلقة بالعمل، وصار يمد يده إلى صدري، وأحيانا إلى خصري”.
عندئذ أصبح الأمر مقرفا للغاية لدى “ن.ن” حيث كانت تشعر بأنها تعيش ضغطا نفسيا رهيبا بسبب ما كان يفعله مسؤولها المباشر، خاصة عندما “وصل به الأمر إلى محاولة عناقي وتقبيلي، فهربت من المكتب وفكرت في ترك العمل” تقول الضحية.
وبما أنها تعيل أسرة، كان قرار ترك العمل وقتها قرارا صعبا بالنسبة إليها، فالعثور على عمل جديد صعب في هذه الظروف، لهذا صارت تتهرب باستمرار لتتخلص من تطاول المدير، لكنه استمر في تحرشه بها، ولما سألناها عن عدم لجوئها الى العدالة لأن القانون يعاقب على التحرش الجنسي، ردت بهدوء”أرفع شكوى ضد مدير شركة؟ هاهاها.. سيتهمونني أنني من تحرش به، أنت تعرف كيف يتعامل المجتمع مع المرأة كما لو كانت مجرد متعة”، وقالت إنها كانت أمام خيارين “إما الاستمرار في الشركة وبالتالي أكون “عشيقة رخيصة” للمدير، وإما أن أترك العمل وأبحث عن غيره لكن الأمر سيان فأغلب المسؤولين في مختلف المؤسسات يمارسون الشيء نفسه مع موظفات أخريات كما سمعت من صديقات لي، وأنا أرى بعضهن يخضعن للتحرش ولأكثر من التحرش مقابل بقائهن في وظائفهن. أنا ليس لدي غير شرفي ولا أستطيع أن أبيعه” لكنها قررت في الأخير ترك منصبها تجنبا لتحرشات المدير، وما زالت الى حد الآن عاطلة عن العمل تبحث عن سد رمق عائلتها.
ضريبة العمل.. قبلات وتنازلات للحصول على امتيازات
تختلف تجربة “ق. أ” عن تجربة “ن.ن” حسب ما ذكرته لنا، وأكدت أن ما يقال صحيح وأنها تعرضت وتتعرض له يوميا لهذا الأمر، قائلة” في البداية كان الأمر جديدا ومخيفا بالنسبة لي، كنت أشعر بالرعب من واقع لم أتعود عليه، أن يقترب مني مسؤول ويلمس شعري أو يحاول تقبيلي بالقوة أحيانا، إذ يتعمد المسؤول إبقائي في العمل لوقت متأخر ليعرض علي إيصالي مستغلا تأخر الوقت وفي الطريق يغير الوجهة … اكتشفت أن الكثير من الزميلات يعاملن بالطريقة نفسها من قبل أرباب عملهم ويحظين بمكانة “خاصة” في الشركة، لهن الكثير من الامتيازات ويغبن عن العمل وقتما يشأن”، غير أن تعامل “ق.أ” كان مغايرا حيث فكرت في استغلال الأمر لصالحها، موضحة “صرت أسمح بتلك اللمسات والقبلات..! أعطي ما أريد أن أعيطه، ما دام راتبي يزيد بعد أن كنت قاب قوسين من الطرد”!
سألتها: كأنك تقبلين بالتحرش؟ ردت: “لا أقبل، لكن ما بيدي حيلة، عليّ أن أعمل لأصرف على نفسي، لن أشحذ في الشارع بحجة أنني أشرف من بقية
الناس، وأنا أساسا لا أمنح أكثر مما أريده”، قلت لها: هل تعتبرين ما يجري لك جزءا من ضريبة العمل؟ فردت: “أجل لأن القانون لا يحمينا، لا يمكننا أن نلجأ إلى القانون لأن الذي يتحرش هو المسؤول الذي سوف يحميه القانون، بينما أنا “مجرد واحدة” وغيري موجود في السوق على حد تعبيرهم”.
انهارت بعد أن وجدته شبه عار خلف مكتبه..
وإن كانت محدثتنا استطاعت التأقلم والانصياع لنزوات مسؤولها في سبيل تحقيق غاياتها، فهناك من أوصلتهن صدمة الواقعة إلى الانهيار العصبي واضطرابات نفسية وعصبية، كما هو حال “ن.ب” صاحبة الـ 23 ربيعا، التي وجدت مديرها شبه عار كاشفا لها عن عورته بعد أن استدرجها للاقتراب منه خلف مكتبه، وهي اليوم ما تزال تتابع علاجها النفسي.
أما الآنسة “ح. ر”، صحفية بإحدى اليوميات، فأقرت هي الأخرى بهذه الظاهرة التي قالت عنها إنها واقع معيش تتعرض له باستمرار هي وزميلاتها في سعيهن لجلب المعلومة من أجل إنارة الرأي العام، وقد استنكرن مثل هذه المواقف التي صرن يواجهنها باستمرار وحتى من طرف كبار الساسة. وتضيف “ح.ر” أنها تعرضت عدة مرات لمساومات من طرف كبار المسؤولين وآخرها كانت مع أحد الولاة الذي عرض عليها بعد سيل من المجاملات والتغزل أن تخرج معه للغداء بمفردهما تمهيدا لأشياء أخرى.
وتُجمع العاملات اللواتي تحدثنا إليهن أن ذلك يحدث غالبا مع رجال فوق الأربعين وليس من طرف الشبان، كما يحدث غالبا في الشوارع.
الأخصائية النفسية مليكة شارد:
“الحاجة والعوز سبب استفحال الظاهرة التي تستدعي الدراسة”
اعتبرت الأخصائية النفسانية مليكة شارد، ظاهرة التحرش الجنسي التي لم تعد مقتصرة على الشارع فقط، بل انتقلت إلى الشركات والمؤسسات الخاصة والعامة، أنها ظاهرة متفشية وخاصة تلك التي تحدث في المؤسسات، وقالت “أعتقد أن ما سمي في الفترة الأخيرة بفضائح المؤسسات الكبيرة هو الذي عرّى الظاهرة بشكلها الراهن، نحن نعيش في مجتمع معقد إلى أبعد حد، السلوك الفردي اليوم صار مرتبطا آليا بالسلوك العام، ولهذا انتشرت ظواهر كثيرة منها الاعتداء الجنسي على النساء وعلى الأطفال وأخشى أن تصل الأمور إلى الأفظع، إن لم يتم معالجتها ودراسة أسبابها بشكل موضوعي”.
وردت الأخصائية استفحال التحرش الجنسي ضد النساء الى أزمة اقتصادية واجتماعية حقيقية وأخرى موازية، بمعنى أن المتحرش بالفتاة أو بالمرأة غالبا ما يكون هو صاحب العمل، هو المسؤول المباشر في العمل..الخ، ولأن الوضع الاقتصادي لأغلب المواطنين تحت الخط الأحمر من الفقر، ولأن ظاهرة البطالة بلغت نسبة رهيبة في البلاد، فإن العثور على العمل يوازيه لدى المرأة البقاء فيه، إذ لم يعد يكفي العثور على منصب شغل، بل يجب أن تبقى فيه لأن الوظيفة تعني راتبا شهريا تحتاج إليه بشدة هي وأسرتها، ومن هنا يأتي الاستغلال الجنسي من رب العمل، الذي يعرف أن المرأة “سوف تقبل” لأنها لا تستطيع أن تترك عملها ولا تستطيع أن تفتح فمها في الوقت نفسه.
وعن إحجام الضحية عن الكشف عن مضايقات المسؤول، أوضحت الخبيرة قائلة “لأنها تخاف من المجتمع، تخاف من أسرتها ومن نظرة جيرانها إليها، لن يقول عنها أحد “شجاعة لأنها تكلمت” بل سوف يقولون “هي التي بادرت”. وحتى على المستوى القانوني يحتاج التبليغ إلى “شهود عيان” ولا أعتقد أن هناك من سوف تأخذ معها إلى المحكمة “شهود عيان” ليساندوا قضيتها!!”. وتضيف “المسألة أخطر بكثير لأنها صارت مساومة حقيرة على شرف المرأة لأجل خبزها، ولأجل ألا تموت جوعا عليها أن تقبل “بالتقبيل واللمس والعناق”، وإن أرادت أن ترتقي في منصبها “فعليها أن تضاجع مديرها” وهذا ما جرى للأسف لنساء يتمسكن بالصمت والكبت لأنهن يخفن ولأنهن “يعتبرن أنهن خسرن شرفهن فلا يجب خسران احترام الناس علانية”.
الأستاذة بن براهم فاطمة الزهراء:
“القضية محسومة للمدير، وحتى لو ربحتها المرأة قانونيا ستخسرها اجتماعيا”
كان للأستاذة “فاطمة الزهراء بن براهم”، رأي واضح في مسألة التحرش الجنسي مستخلص من الواقع والممارسة القانونية ذات الصلة. وحسبها فمن منظور قانوني فالتحرش الجنسي من الجرائم التي يعاقب عليها القانون حسب ما تنص عليه المادة 341 مكرر من قانون العقوبات والتي تعاقب من يستغل سلطة وظيفته عن طريق إصدار الأوامر للغير والتهديد أو الإكراه أو بممارسة ضغوط عليه قصد إجباره على الاستجابة لرغباته الجنسية، وعقوبة ذلك الحبس من شهرين إلى سنة وغرامة مالية من خمسين ألف إلى مائة ألف دينار.
ومن منظور خبرتها، أردفت المحامية بن براهم بأن العديد من المواطنين لا يعرفون القانون، لاسيما فيما يخص الظواهر الاجتماعية كالتحرش الجنسي بالأطفال والقصر وبالنساء عموما، والكثيرون لا يخافون من القانون نفسه بل من المجتمع الذي يصدر “قانونه الخاص” على المرأة التي “ترفع قضية تتهم فيها مديرها أو مسؤوليها بالتحرش الجنسي ضدها”، هذا هو الأمر الذي يخيف أغلب النساء، فالمجتمع سينظر إليهن “كعاهرات” أي أنهن لم “يرفعن القضية إلا بعد أن بعن أنفسهن”، وحتى لو فازت المرأة بالقضية قانونيا ستخسرها اجتماعيا. هذا الخوف من الأسرة “من الأب والأخ والزوج” ومن المجتمع ككل صنع جدار الصمت وصل إلى حد أن قبلت بعض النساء “أشياء مخجلة” للبقاء في وظائفهن.
وعن نظرة بعض النساء إلى القانون بأنه سيحمي “المدير” ولن يحميهن، ردت “أعتقد أن التحرش الجنسي ليس قضية هيّنة ليتم السكوت عنها، هذا ردي القانوني، وردي الآخر هو أن تُقدم المرأة شكوى صريحة، يعني أنها فتحت بابا وعليها أن تستمر فيه بشجاعة لأجل كسب قضيتها، وهذا بكل أسف لا يتأتى دائما”.
وأضافت قائلة “أقصد أنه حتى عندما تبدأ امرأة في قضية “تحرش جنسي ضدها” سرعان ما تتراجع وتسحب القضية خوفا من ردة فعل الآخرين، وأحيانا في غياب “شاهد عيان” يجعل قضيتها “هشة”، لأن المتهم إن كان مدير شركة أو مسؤولا لن يعجز عن إحضار ألف شاهد يدينون المرأة ويتهمونها بأشياء فظيعة لأجل تجريمها وتبرئة صاحب النفوذ! وهذا أمر يضاف إلى الأسباب التي تجعل المرأة تخاف من الكلام”.