مزالي والجزائر (4)
كان الرئيس بورقيبة في قصره بالمنستير يحتفل بذكرى أول اعتقال سياسي له أيام العهد الإستعماري، محاطا بكبار وزرائه ومستشاريه.
وفي نفس اللحظة، في ليلة مظلمة موحشة، كان وزيره الأول السابق، وخليفته المرتقب في الحكم من بعده، محمد مزالي، يقطع النهر الفاصل بين تونس والجزائر، في المنطقة القريبة من قرية حمام بورقيبة ومدينة عين الدراهم، في الشمال الشرقي للجمهورية التونسية، هاربا بحياته من الزعيم الذي تطلع لخلافته كثيرون قبل مزالي فما تحقق لهم ذلك.
لم يكن النهر عميقا، لذلك لم يجد مزالي صعوبة في اجتيازه. كانت الصعوبة الأكبر في تسلق الجبل الذي واجهه على الضفة الأخرى من الحدود، والذي تراءت من بين شعابه أضواء باهتة اتخذها الوزير الأول الأسبق بوصلة وهدفا.
لكن مزالي رجل مشهور بلياقته البدنية العالية، وحبه للرياضة قولا وعملا. قال لي إنه كان يخصص وقتا للرياضة أكثر من مرة في الأسبوع، وإن الشعار المرفوع من قبله ومن عدد من زملائه الوزراء أثناء ممارسة الرياضة هو “الخدمة في اللعب لا”!!
وقلت لسي محمد إن تجربته تبين أن على جميع الوزراء في الدول العربية أن يهتموا بلياقتهم البدنية، ليس فقط لإيمانهم بالفوائد الصحية المعروفة للرياضة، ولكن لأن السياسة في بلدانهم لا أمان لها، وبعضهم قد يجد نفسه يوما مطاردا ومضطرا للهروب كما فعل هو في تلك الليلة الموحشة من ليلي سبتمبر 1986.
قال مزالي عن تلك اللحظات في كتابه “نصيبي من الحقيقة”: بدأت في تسلق الجبل. دام ذلك ساعة أو ساعة ونصفا، ومن حسن حظي أنني كنت في لياقة بدنية جيدة رغم الرهق. ولم ألبث أن وجدت نفسي في غابة. وبما أنني لم أكن أرى شيئا، اصطدمت أكثر من مرة بجذوع الاشجار وبالأغصان، فاصبت بخدوش. ونشبت سراويلي في جذع شجرة، وبما أنني أتقدم بقوة تمزق النسيج وأحدث خرقا طوله عشرون سنتيمترا في مستوى الركبة. ولكنني واصلت الصعود وأنا أتصبب عرقا. وكنت أحمل كيسا صغيرا طوله خمسون سنتيمترا حافظت عليه إلى هذه الساعة، ولم يكن ثقيلا”.
وأخيرا، أتم السياسي التونسي المشهور مهمته، وأكمل اجتياز الجبل من بعد النهر، ووجد نفسه مباشرة قبالة بيت من بيوت المواطنين الجزائريين من سكان تلك المنطقة الحدودية، وكانوا يسهرون الليل أمام منزلهم.
وأواصل عرض القصة غدا إن شاء الله.